قراءة أون لاين لرواية " حياة روتينية " بقلم الكاتبة : فاطمة المحمودى - مجلة الشفق - الحلقة الاولى



جلست متململة داخل الدكان..أقلب في دفاتر الحسابات أو هكذا أتظاهر.
لم يصدق الفيلسوف حرنقش تظاهري بالعمل ، ونظر إلي قائلا :
ـ أنت محبطة..لا رغبة لك في العمل.
هممت بالإنكار..لكن دون أن أشعر وجدتني أقر وأعترف.
ـ أجل لا رغبة لي في فعل أي شيء..كل ما حولي ممل..وسخيف ومحبط.
هنا انتبهت إلى أن الفيلسوف يقلب في صفحات روايتي (حياة روتينية) ؛ فسألته :
ـ ماذا تصنع بها؟!!
نظر إلي بإمعان وقال :
ــ أحاول معرفة مصيرنا في الحياة..لذلك لابد من الرجوع إل الماضي..لمعرفة وضعنا في الحاضر..وطريقنا إلى المستقبل.
***************************** 
الحلقة 1
******** 
مارس 1989
كالعادة كل صباح أمسك (عبده) أو ( أبو إبراهيم ) كما ينادونه فى المصلحة المكنسة الخشبية القديمة..يزيح بها الأتربة التى خلفها الموظفون وراءهم. 
سعل (عبده) مرتين من غبار الأتربة ثم زفر فى ضيق وقال : 
ــ أعوذ بالله..ورق وزبالة فى كل حتة. . 
أومأ (فتوح) برأسه موافقا و أردف قائلا : 
ــ و كله كوم .. وأكوام قشر اللب والسودانى كوم..والواحد لو أشتكى .. يقولوا ما هى شغلتك
تنهد (عبده) فى حسرة و قال : 
ــ ناس تقزقز لب .. وناس ينقسم وسطها . 
كان هذا هو التبرم الروتينى اليومى من السعاة تجاه الموظفين..بسبب إهمالهم وإلقائهم لمخلفاتهم على الأرض ..حتى إنه فى إحدى المرات (فتوح) و(عبده) هددا بالامتناع عن التنظيف إذا لم يتوقف الموظفون عن إلقاء القمامة.. لكن ــ حمدا لله ــ تم احتواء الموقف.. وقامت المصلحة بوضع سلة مهملات بكل غرفة..لكن هذا لم يمنع الموظفون ــ فى أحيان كثيرة ــ من إلقاء القمامة على الأرض . 
**********************
بعد الكنس ذهب (عبده) إلى الحمام.. ليعود بدلو معدنى قديم مملوء بالماء و بواسطة كوب بلاستيكى قذر..قام برش الأرضية بالمياه لإزالة آثار الأتربة .. ثم فتح النوافذ..وعندها تدافع..لا..ليس الموظفون..بل الذباب..معلنا بدء اليوم الوظيفى . 
***********************
بعد أن انتهى (عبده) من التنظيف..ذهب إلى البوفيه لأعداد كوبه المعتاد من الشاى الثقيل..بينما أخذ (فتوح) فى تلميع المكاتب والكراسى؛ لإزالة ما علق بها من مياه أثناء التنظيف .
لا تكاد تمر دقائق حتى يتوافد الموظفون أفرادا وجماعات..مهرولين على سلالم المصلحة..داعين الله أن يرزقهم التوقيع فى دفتر الحضور ويبعد عنهم التوقيع فى دفتر التأخير. 
توجه الموظفون الواحد تلو الأخر إلى غرفة دفتر الحضور والانصراف .. حيث يجلس (شفيق) خلف مكتبه..واضعا أمامه الدفتر مفتوح الصفحات .. ليأتى كل موظف باحثا عن اسمه ليوقع أمامه .
بالنسبة للموظفات ربات المنزل (شفيق) رجل مهم جدا..أكثر أهمية من المدير..وذلك لما يمثله لهن التوقيع فى دفتر الحضور من كابوس يومى خصوصا من كانت لديها أطفال لابد أن تذهب بهم إلى المدرسة أو إلى أمها أو حماتها..لذلك كثيرا ما يحدث أن تتوسل موظفة لــ(شفيق) أن يرأف بحالها و يتغاضى عن التأخير..أحيانا يرضى..وأحيانا أخرى يرفض خصوصا إذا علم بقدوم حملة تفتيشية مفاجئة! 
وهنا يأتى السؤال..كيف يكون التفتيش مفاجئًا، ويعلم (شفيق) بميعاده مسبقا؟!..الإجابة بسيطة..فكلمة ( تفتيش مفاجئ ) هو تعبير متعارف عليه ليس أكثر..فالموظفون فى إدارة التفتيش..عندما يعلمون ببوادر حركة تفتيشية؛ فإنهم يبلغون الجهة التى سوف يتم التفتيش عليها حتى تكون على أهبة الاستعداد..لتظهر فى أحسن صورة.. فتبدو المصلحة وإدارة التفتيش بمظهر الجاد..المتابع لكل ما يحدث..وبالطبع هذا التنسيق الرائع بين المصلحة وإدارة التفتيش..إن دل على شيء..فإنه يدل على روح الفريق، والتى من ثمارها مستوى الأداء الإدارى الذى يشعر به كل من يتعامل مع المصلحة. 
******************
والمصلحة مبنى قديم من طابق واحد.. مشيد على الطراز الذى يهتم بالأعمدة
و الزخارف.. تحفة فنية لولا الإهمال الذى طمس رونقها، وأطفأ بريقها .. وهى من الداخل عبارة عن شقة واسعة ذات سقف عالٍ..مزخرف الأركان، وإن كانت أجزاء كثيرة من تلك الزخارف قد تهالكت وسقطت .. حتى الجدران
بهت طلاؤها حيث لم تمسها فرشاة (نقاش) منذ زمن بعيد . 
وهى مكونة من خمسة غرف: 
الغرفة الأولى..غرفة المدير أستاذ (لطفى البسطويسى ) . 
الغرفة الثانية..أكبر غرف المصلحة، وبها أكبر عدد من المكاتب والموظفين ويطلق عليها (الغرفة الكبيرة). 
الغرفة الثالثة..وهى حيوية جدًا للموظفين..ليس فقط لأنها غرفة أستاذ (شفيق)..بل لأنها أيضا غرفة الخزينة..حيث قبض المرتبات والحوافز والعلاوات..والمختصة كذلك بإجراء الأجازات..وكما هو معروف هذه الأشياء هى أول ما يسأل عنها الموظف حتى قبل أن يعرف طبيعة العمل ، وإذا كان يستطيع أن يؤديه أم لا ؟!.. ويطلق عليها ( غرفة الخزينة) . 
الغرفة الرابعة..غرفة صغيرة للغاية بها كراكيب وأشياء قديمة.. وهى مغلقة دائما. 
أما الغرفة الخامسة..فهى أهم غرفة بالنسبة للمواطنين طالبى الخدمة لأنها الغرفة المختصة بختم صك العتق من عبودية الروتين .. والذى ما إن تطأ قدم المواطن أرض المصلحة..لا يكون له هدف سوى الحصول عليه..فهى غرفة ( ختم النسر ). 
هذا بالإضافة إلى الحمام ، والمطبخ الذى تحول إلى ( بوفية ).. يتولى إدارته (عبده) يعاونه فيه (فتوح). 
أما عن نشاط المصلحة.. فهو بالطبع.. خدمة البلاد والعباد. 
***********************
بعد أن قام الموظفون بالتوقيع..انتشروا فى المصلحة روتينا . 
لتبدأ الحركة فى ( الغرفة الكبيرة )..فهى بمثابة المحور الأساسى للمصلحة ..نظرا لأن بها أكبر عدد من الموظفين؛ فتتوالى عبارات..صباح الخير.. السلام عليكم..من اللاحقين إلى السابقين فى الجلوس خلف المكاتب، وبينما تكتفى النساء بإلقاء التحية مشافهة..لابد أن يصافح الرجال بعضهم البعض. 
ــ سلام عليكم.
قالتها (راوية) ثم جلست متلاحقة الأنفاس خلف المكتب. 
لاحظت (مديحة) إرهاقها الشديد فسألتها :
ــ مالك ؟ .. روحك رايحة ليه ؟ . 
ردت (راوية) قائلة :
ــ انتى بتقولى فيها أنا حاسة أن قلبى وقف..النهارده صحيت من النوم مفزوعة لقيت الساعة عدت سبعة وربع ..قمت جرى صحيت (وجيه)..ولبست العيال وجهزت لهم الساندوتشات..علشان نلحق مواعيد المدارس والشغل. 
لم تكن (راوية) وحدها فقط هى المرهقة بل الجميع..فاليوم هو السبت أول أيام الأسبوع..اليوم الذى ينبئك بأن أمامك أسبوع كامل من روتين الحضور والإنصراف..تعيش على أمل الوصول إلى يوم الجمعة..يوم الأجازة، وأمس كان الجمعة حيث النوم الهادئ المتواصل والاستيقاظ فى ساعة متأخرة..وبما إن الاستيقاظ يكون فى ساعة متأخرة..فإن النوم يكون فى ساعة أكثر تأخيرا..وبهذا يصبح الاستيقاظ والذهاب إلى العمل فى اليوم التالى..عذابًا ما بعده عذاب. 
دخلت (سهير) فى الكلام وسألت (راوية) : 
ــ و إيه أخرك فى النوم؟ كان عندك شغل جامد فى البيت؟ . 
هزت (راوية) رأسها نافية وقالت : 
ــ اليوم اللى أخدناه أجازة علشان رفع العلم على طابا..فرج على الواحد .. يومها كنست و مسحت..وخليت البيت على سنجة عشرة. 
علقت (مديحة) قائلة : 
ــ أيوه يا عم..قعدت طول النهار يوم الجمعة بالك رايق ومرتاح. 
تنهدت (راوية) فى حسرة وقالت : 
ــ كنت فاكرة زيك كده..لكن (وجيه) حكم رأيه أننا ننزل البلد ونزور أهله .. ولأجل البخت كان عندهم خبيز .. قعدت أخبز لحد ما روحى طلعت. 
أخذت (راوية) تحكى عن عدد الصاجات التى قامت بخبزها .. بينما (سهير) و(مديحة) تتضاحكان عليها من حالها. 
(راوية) ذات أصول ريفية من قرية ملاصقة للمدينة..وعلى الرغم من زواجها بأحد أقاربها من البلد..إلا إنها انتقلت إلى الحياة فى المدينة بعد فترة من الزواج،زوجها (وجيه) هو الأخر موظف لكن فى مصلحة أخرى .. ولقرب قريتهما من المدينة؛ فإنهما يستطيعان زيارتها كثيرا..(راوية) فى أوائل الثلاثينات زوجها (وجيه) يكبرها بعدة سنوات وكلاهما يحمل مؤهلاً عاليًا ولديهما ثلاثة أبناء.
******************
دخل (فتوح) حاملا حقيبتين كبيرتين من الخوص .. منتفختين من كثرة ما بداخلهما قائلا : 
ــ حاسب..حاسب..حاجة مدام (ميرفت). 
قام (عفيفى) فى وقار مفسحا المكان.. بينما أخذ (خميس) الحقيبتين فى لهفة ليضعهما بجوار المكتب فى حرص شديد. 
دخلت مدام (ميرفت) سائرة فى ترفع متجهة إلى مكتبها..وما إن لمحها (عفيفى) حتى هش وبش..وهلل ــ كما يفعل كل يوم ــ قائلا :
ــ أهلا .. أهلا .. ست الكل . 
ليشاركه (خميس) الترحيب ويقول كالمعتاد : 
ــ صباح الخير يا مدام (ميرفت) . 
فترد (ميرفت) فى هدوء : 
ــ صباح النور . 
كانت(مديحة) و(سهير) تتابعان ما يحدث ثم تنظران لبعضهما نظرة سخرية وتهكم . 
***************************
جلس الموظفون خلف المكاتب وهدأت الأصوات.. وأخرج الموظفون أوراقهم ودفاترهم متظاهرين بالعمل..لماذا يتظاهرون؟!..لأن ليس لديهم طاقة للعمل، فهم لم يأكلوا بعد، أو حتى شربوا الشاى..لذلك على السادة المواطنين توخى الحذر من طلب أى خدمة، أو الاستعلام عن أى معلومة قبل تناول الموظفون الطعام وشرب الشاى، وإلا كانت العواقب وخيمة..حيث يثور الموظف على المواطن،وينعته بأسوأ الصفات..فتكون النتيجة أن يثور المواطن هو الآخر .. ويغلى الدم فى عروقه؛ فيبادله سبابًا بسباب، بل ربما تطور الأمر ووصل إلى حد الاشتباك بالأيدى ؛ فيجد المواطن نفسه مقبوضا عليه بتهمة التعدى على موظف عام أثناء تأدية وظيفته.. لذلك المواطن الذكى هو من يعرف متى يطالب بحقه . 
****************
#مجلة_الشفق

إرسال تعليق

0 تعليقات