قراءة قصة (ثورة العاموس) للكاتب محمود زيدان - مجلة الشفق


قراءة قصة (ثورة العاموس) للكاتب محمود زيدان - مجلة الشفق


----------
لست صغيرا يابني فقد تجاوزت بالأمس سن الخامسة عشر، أرجو أن تكف عن البكاء ودع الطبيب يتفحص اﻷمر الذي حضر من أجله.
قالها الوالد محاولا إخفاء حزنه عن ابنه الوحيد، حتى لا يزيد الغلام اضطرابا، ولا يضاعف من آلام والدته.
استجاب الصغير للأمر، وهدأت ثورته قليلا عقب أن ربت الطبيب على كتفه قائلا: هدئ من روعك يامازن، هذا فقط طفح جلدي، ولا يوحي بشيء من أمراض الخطورة.
ولكن دعنا نستكشف اﻷمر عن قرب.. فقط ضع هذا الترمومتر في فمك.
أومأ الصغير رأسه بالموافقة، بينما راح الطبيب يتفحص البقع الحمراء المتناثرة على جلده بالعدسة المكبرة.
ثم قام بسحب الترمومتر من فم الغلام، وغمغم بصوت خافت: لقد تجاوزت الحرارة الواحد واﻷربعون.. يبدوا أنه ليس باﻷمر الهين.
صاحت اﻷم في لهفة قائلة: هل هناك شيء ما يادكتور؟ أخبرنا من فضلك سيد نديم.
تجاهل الطبيب تساؤلات اﻷم.. وقال للوالد بلهجة صارمة: قم فورا بإغلاق جميع أبواب الفيلا وكذلك شرفاتها، خاصة تلك التي تطل على حديقة المنزل.
ثم مال الطبيب إلى الغلام قائلا: مم تشكو مازن ؟ هل تعاني من الصداع الحاد وعدم القدرة على الحركة ؟!
مازن: نعم... وأشعر كذلك بآلام شديدة خلف العينين.
عقد الطبيب حاجبيه ثم قال: هل أصبت بالغثيان أو القيئ مؤخرا..؟
الغلام: لا.. لم يحدث بعد.
تهللت أسارير الطبيب شيئا قليلا ثم قال: كن مطمئنا يامازن، ولكن اسمح لي بأخذ عينة صغيرة من الدم، أعدك لن تشعر بألم شديد، لا يتعد اﻷمر كونه مجرد بعوضة وقفت على جلدك.
صرخ الغلام معبرا عن رفضه، وأطلق الكثير من العبارات الغاضبة.. فأشار الطبيب إلى الوالدين طلبا لمساعدتهما في الإمساك به.
تم سحب عينة الدم بصعوبة بالغة، ثم ولى الطبيب ظهره إلى الخارج بعدما همس في أذن الوالد: من فضلك اتبعني سيد حبيب.
ظل الطفل المسكين ينتفض رعبا مثل عجوز في ليلة شاتية.. بينما تساقط الدمع من مقلتي اﻷم، حتى شق أنهارا على جبينها.
هرول الوالد لحاقا بالطبيب، ثم قام بسؤاله: أخبرني بما يجري سيد نديم، من الواضح أن الأمر خطير.
صاح الطبيب قائلا: سأخبرك لاحقا بكل شيء، فاﻷمر لا يحتمل التأخير.
رد الوالد في انزعاج: حسنا، هيا بنا على الفور.
استقل كلاهما السيارة، وساد الصمت بضع دقائق، بدا فيها الطبيب متحيرا، بينما ظهرت على الوالد علامات الوجوم، وتلاشت نضارة وجهه وحل محلها الشحوب.
وصلوا سريعا إلى المعمل، وجلسا يترقبان نتيجة التحليل.
صاح الوالد بأعلى صوته: من فضلك نديم، أخبرني ما اﻷمر، ثق تماما سأكون متقبلا لما تقول أيا كان مدى فداحته.
صمت الطبيب برهة ثم قال: هذه أعراض مرض خطير، يسمي - حمى الضنك - عدوى ينقلها نوع خطير من الناموس المصري.. يقول العلماء أنه من أسوأ القتلة في هذا العالم.
هتف حبيب في دهشة: لا أكاد أصدق، يبدو أن هناك خطأ ما.. فنحن نعيش في فيلا فخمة بأرقى أحياء المدينة، ولسنا من ساكني البرك والمستنقعات، أظن أنك تدرك هذا جيدا، فأنت طبيب العائلة.
نظر نديم إلى حبيب في أسف وقال: هذا النوع من الناموس يقطن اﻷحياء الراقية، ويستوطن المياه النظيفة، ونباتات الزينة في شرفات المنزل.
أصيب الوالد بالهلع، ثم انتفض من مكانه فجأة وقال: سأمضي به فورا إلى أشهر مشفى بالعالم.
نظر الطبيب إلى الوالد ثم قال: تمهل قليلا سيد حبيب، فاﻷمر حتى الآن لا يعدو كونه مجرد احتمال.
جلس حبيب مضطربا.. ثم ربت الطبيب على كتفه وقال: سيد حبيب، ألم تخبرني بأنك ستكون متقبلا للأمر ؟
حبيب: أرجوك أكمل من فضلك
نديم: لم يكتشف العلماء حتى الآن عقارا فعالا للمرض، ورغم ذلك فإن علاجه يسير، أما عن صغيرنا مازن فلم يصل بعد إلى مرحلة الخطورة، لذا كن على يقين بأنه في حالة جيدة.
لم يكد الطبيب ينهي حديثه حتى تلقى الوالد اتصالا هاتفيا من زوجته بالمنزل تصرخ قائلة: تعال فورا ياحبيب، مازن حبيبنا يقيئ دما.. ثم انفجرت بعدها باكية.
سقط الهاتف من يد حبيب، ثم أراد أن يهم بالعودة إلى المنزل، فاصطدم بطبيب التحاليل.. كان قادما من فوره على عجل.
سأله حبيب في لهفة: أخبرني من فضلك، كيف كان اﻷمر؟ هل من علامات تدل على مرض خطير.؟
أومأ الطبيب رأسه أي نعم ثم قال: تفضل الملف دكتور نديم.
تناول نديم الملف الطبي.. ثم انطلق خلف صديقه، بينما توجه طبيب المعمل الي فراشه لمواصلة النوم !!
في طريق عودتهما.. استطاع نديم إقناع الوالد بالعدول عن السفر قائلا: يجب استثمار الوقت بأقصى شكل ممكن.
هرع الصديقان إلى المنزل، وتم نقل الغلام إلى المشفى لتلقي العلاج.
مرت أربعة عشر يوما، عانى فيها الصغير شتى ألوان العذاب، من وخزات الإبر، وأخذ عينات من الدم، إلى تمرير أنبوب بلاستيكي بداخل الصدر لسحب النزيف.
أثناء ذلك كانت اﻷم تجتهد قدر استطاعتها في إضفاء جو من المرح والسعادة على صغيرها، فأحضرت له مجلدات كاملة تحكي حياة الناموس، وأنواعها المختلفة، وكذلك أضرارها التي نجا منها مازن بصعوبة بالغة.
--
في ستوديو التصوير على الهواء مباشرة..
صاحت المذيعة في وجه مازن الذي أصبح الآن من أشهر علماء البيولوجيا في العالم: يالها من قصة عجيبة، إنه لشيء رائع أن يستثمر الإنسان محنته في الانطلاق نحو القمة.. ولكن أخبرني سيد مازن: متى اتخذت القرار الحاسم بالقضاء على حشرة الناموس؟!
كان العالم البيولوجي، مازن حبيب، يرتدي بدلة فضية اللون، صنعت في أرقى بيوت اﻷزياء اﻷمريكية... متكئا على كرسي دائري، منتفخ البطن، يميل في فخر يمينا ويسارا مزهوا بنفسه، ثم قال:
بالطبع كان لهذا المرض الذي أصابني قبل ثلاثون عاما، أثرا كبيرا في التفوق العلمي.
رمقته المذيعة بنظرة إعجاب قائلة: وكيف نجحت في إحداث هذه الثورة العلمية بالقضاء على الناموس، وكنت سببا في أن يعم الهدوء أرجاء العالم ؟
تبسم مازن في ثقة وقال: لم يكن اﻷمر عبثا... استغرق فريقي المكون من مائتي عالم، خمسة أعوام من البحث والتجريب، ثم خمسة أعوام أخرى لتنفيذ خطة الإبادة.
المذيعة في دهشة: وكيف تم التخطيط لحرب الإبادة ؟
مازن: نعرف جيدا أن الإناث هي من تسبب الإيذاء للبشر، أما الذكور فلا ضرر منها ﻷنها تتغذي على رحيق الزهور والنباتات، لذا قمنا بزرع جينات وراثية داخل الذكور، يمكنها فورا قتل الإناث عند التزاوج، إلى أن نجحنا في القضاء على الناموس منذ ثلاثة أيام.
قهقهت المذيعة عاليا وقالت: بالفعل.. لم يعد في أرضنا ناموس.. ولكن سيد مازن: علمنا مؤخرا أن الناموس كان غذاء شهيا للضفادع واﻷسماك، وبعض الطيور، فماهو طعامهم الآن ؟!
صمت مازن بضع ثوان ثم قال: بكل أسف.. سيأكل الكبار الصغار، وقد تتعرض هذه الكائنات للإنقراض، لذا فنحن نعمل على إيجاد وسيلة لحمايتهم في وقت لاحق!
أومأت المذيعة برأسها ثم قالت: أعلن بعض العلماء رفضهم الشديد لهذا الأمر، مؤكدين أنه بعد فناء الإناث عن آخرهم، سيقوم الذكور بالتزاوج مع حشرة أخرى، لينتج عنهما كائن جديد.. ربما سيكون أشد خطرا من الناموس.
لوح مازن بيده، وصاح غاضبا: دعونا الآن من أعداء النجاح وأنصاف العلماء ذوي نظرة السوداوية القاتمة.
ثم أضاف ساخرا: امنحونا الفرصة كي نستلقي على سرائرنا لبعض الوقت في هدوء.. بعيدا عن ضجيج الناموس.. ثم أنهى حديثه بضحكة ساخرة !
تبسمت المذيعة في تفهم قائلة: حسنا سيد مازن.. دعني أحييك على انجازك، ولكن هل تسمح لي باستقبال اتصالا هاتفيا من أحد المشاهدين ؟
نهض مازن واقفا ثم قال: عذرا للجميع، زوجتي أوليفيا اﻷمريكية وابننا ألبرت بانتظاري في منزل الوالد، و نرغب جميعا في قضاء وقت ممتع مع العائلة في بيتي القديم.
المذيعة: حسنا سيد مازن.. استمتع بوقتك.. إلى اللقاء.
بمجرد أن توجه مازن إلى المنزل، وجد أفراد اﻷسرة ومعهم طبيب العائلة في حالة يرثى لها، ملتفين في حلقة دائرية حول سرير ابنه ألبرت.
كان الحفيد مستلقيا على ظهره، مغمض العينين، لا يحرك ساكنا، وقد نهش الناموس لحمه، وبدت على جلده بعض التشوهات الغائرة، كأن طائرا وقع عليه قطعا بمنقاره، فأحدث مئات الثقوب في شتى أنحاء جسده، ثم انطلقت الدماء تتدفق منه كأنها أعين ماء جارية..
انكب مازن على ولده.. ومضى يصرخ بأعلى صوته: ماذا حدث أجبني ياألبرت؟!
ثم راح يقبل جبين الإبن تارة، ويقلب جسده تارة أخرى أملا في إفاقته، ولكن ليس هناك ثمة أمل في استيقاظه، مات الإبن الصغير.. بعدما فشل الدكتور نديم في مداواته كما فعل مع والده من قبل.
استدار مازن إلى العائلة وأخذ يحدق في وجوههم واحدا تلو الآخر ثم مضى يردد : مات ابني ألبرت ياأماه.
كيف حدث ذلك ياأبت...لقد مات ابني الوحيد ؟!
أجبني أيها الطبيب: من فعل ذلك بألبرت ؟!!
من بعيد كان التلفاز يبث نبأ عاجلا: بعد ثلاثة أيام من نجاح العالم المصري مازن حبيب في القضاء على أنثى الناموس... اقتحمت أسراب الإناث كوكبنا مرة أخرى، إنها الآن تجتاح العالم بسرعة مذهلة.. كونوا على حذر فهي أشد خطورة من السابق.
أيها السادة: يقول العلماء أن الكائن الجديد نتج عن تزاوج الذكور من الناموس مع الجراد، إلا أن ذلك الكائن ذو جناحين وثمانية أرجل حادة.. إنه سريع التطور، و يشبه في هيئته العقارب السامة ولكنه ذو جناحين يطير بهما في الهواء، لذا أسماه العلماء "العاموس القاتل"
الإخوة المواطنون خذوا حذركم...
والزموا بيوتكم...
فاﻷمر حقا شديد الخطورة !!
--------
#محمود_زيدان

#مجلة_الشفق

إرسال تعليق

0 تعليقات