الفصل الثانى من قصة المكتوب الاخير منال سالم

 كان الوضع هادئًا حتى تحولت حياتي بين عشية وضحاها إلى مأســاة حقيقية، كنتُ ابنة أحد رجال الملك المخلصين، أعيش مع عائلتي في البلاط الملكي، حولي الكثير من الخدم والحشم، ننعم بسلام وحياة رغدة هانئة، لكن انهــار كل شيء بدخول ملكنا في معركة غير محسوبة العواقب، تكبد خسائر فادحة، وقُتل الكثير من جنوده، خسر أغلب ما يملك من مقاطعات صغيرة تقع ضمن نطــاق مملكته، بالطبع لعبت الخيانة دورًا عظيمًا في إسقاط أخــر حصونه، وأصبح جميع من في البلاط الملكي واقعين تحت وطــأة الأسر، اختبأتُ مع عائلتي بداخل غرفتي القريبة من أحد الممرات السرية، وأجبرنا أبي على البقاء بها حتى مجيء المرشد الذي سيدلنا على الطريق خــارج المملكة لنتحرك في اتجاهه فنفر منها دون أن يمسنا أحد أو نقع في الأسر، التزمنا الصمت، وحافظنا على هدوئنا قدر المستطاع، ظننا أن الردهات خالية من الجنود، لن يبلغنا أحد، سألتُ والدي بنبرة مرتجفة:

-أبي، هل سننجو؟

أجابني بهدوء رغم نظرات الخوف البائنة في حدقتيه:

-أتمنى ذلك بُنيتي

أضفت بتوجسٍ وقد تملكتني الشكوك:

-لقد تأخر قاص الطريق الذي سيرشدنا للخارج

رد والدي بنبرة عقلانية:

-عليه أن يتخذ حذره وإلا وقع في الأسر

أومأت برأسي متفهمة:

-أنت محق أبي

أشار لي بسبابته محذرًا وهو يتجه نحو باب الغرفة:

-تواري عن الأنظار فالوضع لا يبشر بخير

حركت رأسي بالإيجاب وأنا أنفذ أمره دون جدالٍ، ثم شردت أحملق في الفضاء الفسيح البارز من نافذتي محدثة نفسي برجاء متلهفٍ:

-أين أنت رسلان؟ أتترك حبيبتك هكذا؟

أمسكت بقفص حمامتي بيدٍ مرتعشة، لن أتخلى عن هديتي، ستأتي معي، فهي وسيلتي للتواصل معه إن تعذر علينا اللقاء، راقبت قدوم المرشد إلينا بفارغ الصبر من نافذة غرفتي بحذرٍ تام، لكنه لم يصل، باغتنا الوقت، وباتت فرصنا في النجاة شبه محدودة، وفي لحظة حرجة اقتحم الغرفة عددًا كبيرًا من الجنود المقاتلين، شهقنا مذعورين، وتعالت الصراخات المرتعدة.

ارتخت أصابعي عن القفص فسقط بما فيه على الأرضية، تسمرت في مكاني خائفة، أرى ما يحدث حولي بنظرات مرتعدة للغاية، قُتل أبي نصب عيناي، وذُبحت أمي بلا رحمة، وأوشك أحدهم على سفك دمي بقسوة، ولكن قبل أن يطال نصل سيفه الحاد عنقي صــاح به قائده بصوت آجش دب في قلبي الرعب:

-دعها لي!

رأيت في نظراته الشهوانية الموجهة لي أطماعًا دنيئة تكاد تخترقني دون المساس بي، تمنيت الموت على أن أكون أسيرته، لكن هيهات، حتى الموت صار أمنية صعبة المنال، طمع قائد جيش الأعداء في الحصول عليَّ، وأراد أن يتخذني جارية له، قبض على ذراعي غارزَا أظافره في لحمي ليرفعني عن الأرضية، أحنى رأسه على بشرتي هامسًا لي بصوت مخيف:

-سنلهو سويًا! فأنتِ أجمل من أن يظفر بكِ الموت!

أحرقت أنفاسه الكريهة روحي، شعرت بالاشمئزاز وكدت أفرغ ما في جوفي من نفوري الشديد منه، ارتعد بدني، وارتجفت أطرافي من مجرد التفكير فيما يمكن أن يفعله بي، تمنيت الموت ألف مرة قبل أن تلمسني يده القذرة، أغمضت عيناي بقوة لأتجنب النظر إليه، ولكني سمعت صوته الآمر يصيح هادرًا:

-خذوا ما تريدون، فتلك غنائم حربنا!

عادت أنفاسه المقززة تلفح وجنتي لتصيبني أكثر بالغثيان وهو يكرر على مسامعي مؤكدًا:

-وأنا نلت ما أريد!

اتخذني أسيرته، وجرجرني خلفه ممسكًا بي من معصمي يراقب من حوله وهم ينهبون المكان بكل ما فيه من مقتنيات ثمينة، لم يكن بي أي قدرة على المقاومة، فقد أنهكت قواي بالكامل، رفعت عيناي المتورمتان من كثرة البكاء والنواح ناظرة إلى والدي بحسرةٍ قبل أن أفارقهما للأبد، رمقت غرفتي بنظرة حزينة، وبينما كنت أوشك على الاكتفاء مما رأيته، وقعت عيناي على صندوقي الصغير الخاص بمراسلاتي السرية مع "رسلان"، وكذلك القفص الذهبي، طرأ في عقلي شيء ما، فكرة طائشة، لكن ربما تجدي نفعًا، حاولت سريعًا التفكير في طريقة تمكني من التملص من عدوي المهلك للحظات حتى أنفذ مخططي، تعمدت التباطؤ في خطواتي مدعية إنهاك جسدي، وهمست له بصوت ضعيف استجديه:

-هلا تركتني أخذ قلادة أمي؟ أرجوك إنها أخر ما تبقي لي منها!

نظر لي بجمود، لم يكن مقتنعًا بكلمة مما أقول، فتابعت متوسلة بكلمات ذات مغزى خطير مدركة أن غرضها سيصل إليه:

-دعني أخذها وسأفعل ما تريده مني!

لمعت عيناه بذلك البريق الشيطاني، وســال لعابه من فمه، فقد حركت كلماتي شهوته الحيوانية وحفزت غرائزه على النيل مني، أرخى قبضته عني قائلاً بلؤم:

-حسنًا، احضريها!

سرت ببطء كي لا أثير شكوكه، وما إن اقتربت من هدفي حتى انحنيت قليلاً لأحضر –خلسة - ورقة صغيرة من داخل صندوق أوراقي الصغيرة لأصنع منها مكتوبًا، التفتُ نحوه لأنظر له بطرف عيني فوجدته مشغولاً بمطالعة ذلك الكأس الذهبي الذي أحضره له أحد جنوده، كان يتفحصه بأعين طامعة، وظل يملي على الجندي عدة أوامر، لم أهتم بما يقول، فقد ركزت حواسي كافة على تنفيذ أمر واحد، حبست أنفاسي، وعاودت النظر إلى صندوقي، أخرجت سريعًا ريشتي منه لأدسها في الحبر، وطبعت بأصابع مرتجفة مكان أسري الذي سأذهب إليه، طويت المكتوب، وزحفت على قدماي بحذر لأصل إلى قفص حمامتي الملقى بجوار الفراش، رفعت رأسي للأعلى مجددًا لأتأكد من عدم مراقبته لي، تنفست الصعداء لأنه مازال مشغولاً عني، أسرعت بإخراج حمامتي من محبسها، وربطت في قدمها مكتوبي الأخير، كـــاد أن يقبض علي وأنا أحتضنها بكفاي صائحًا في بصوته المقيت والمخيف:

-ماذا تفعلين؟

جفل جسدي هلعًا منه، وهربت الدماء من عروقي، حتمًا كُشف أمري، وسأذبح قبل أن أرسل أي استغاثة، جاهدت لأحافظ على ثباتي، واستدرت ببطء نحوه قائلة بنبرة متلعثمة:

-هذه حمامتي، وأنا أحررها من أسرها!

رمقني بنظرات ساخرة متعجبًا من تصرفي الغريب، التوى ثغره قائلاً بتهكم:

-حمامتك ستُحرر، وأنتِ ستصبحين عصفوري الأسير!

رددت عليه بمرارة:

-نعم، إنها سخرية القدر!

نظر لي باستخفاف وهو يكركر ضاحكًا متعمدًا استفزازي، لم أعبأ به، واستغللت الفرصة لأطلق ســـراحها، فهي باتت أملي الأخير، تابعتها بأعين يائسة وهي تحلق عاليًا هــاربة من ذلك الجحيم، تعلقت أنظاري الدامعة بها، وتنهدت بأسى تاركة لعبرات العنان لتذرف بغزارة على وجنتاي، هززت رأسي بلا وعي مستنكرة حالتي، فقد وجدت المنجى لنفسها، شعرت فجـــأة بألم رهيب يجتاح ذراعي حينما قبض عليَّ مرة أخرى بأصابعه الغليظة ليأسرني ويجرني كالبهيمة خلفه، فقد حان موعد اغتيال عفتي معه. عرض أقل


إرسال تعليق

0 تعليقات