#المكتوب_الأخير
#إعادة_نشر
الفصل الأخير
(3)
سرت وراء جواده مكبلة بالأغلال، تعثرت لأكثر من مرة وأنا أحاول المشي على تلك الأراضي الوعرة باستقامة، لكنه كان يجرني عمدًا وكأن في إذلالي لذة خفية تضاعف من إثارته، تمكن الإنهاك مني بصورة مهلكة، ورغم ذلك قاومت شعور الإعياء والظهور بالضعف أمامه، كنت أستمع إلى دعاباته السخيفة – والمتجاوزة في بعض الأحيان – على مضض كبير، فأنا مجبرة على ذلك، توقف لإراحة جواده فترجل عنه متأملاً وجهي المتعب بنظرات طامعة، ارتجف بدني مع لمسه لبشرتي، أشحت بوجهي بعيدًا عنه فعنفني قائلاً:
-انظري إليَّ
أطبق على فكي مجبرًا إياه على الاستدارة نحوه، طالعته بنظرات حانقة من حدقتاي الملتهبتين، التوى ثغره بابتسامة مقززة أبرزت سواد أسنانه هامسًا لي:
-قريبًا سأضع رأسي بين ساقيك
ثم غمز لي بطرف عينه ليتأكد من فهمي لغرضه الدنيء، اقشعر بدني من مجرد تخيل شخصه البغيض قريبًا لذلك الحد المنفر، أراد أن يستحوذ على تفكيري بكثرة تذكيري بما أنا مقبلة عليه معه، وبالفعل نجح في ذلك، بت أرتجف كلما توقف للراحة أو لغرض أخر، أشعر به يقتلني بنظراته، بكلماته، حتى بغمزاته العابثة، ظللت أتضرع للمولى في نفسي أن يصل مكتوبي لرسلان قبل أن يفوت الأوان، مرت عدة أيام وأنا على تلك الحالة، أقاوم، وأقاوم، وأقاوم حتى استنزفت قواي على الأخير، فانكفئت على وجهي صارخة بألم، اضطر أن يوخز جواده بساقيه ليتوقف، استندت على مرفقي قائلة بتعب:
-أعتذر منك! لن يحدث مجددًا
حدجني بنظرات متعجبة ساخرًا من عنادي الغير مبرر، كان يترقب بشغف لحظة انهياري فيجلسني على ظهر جواده لأكون في أحضانه، لكنه تفاجأ بي صلبة جلدة قوية الشكيمة، وتلك المرة لم أستطع النهوض، باغتني بنزوله عنه ليحملني جبرًا على كتفه قائلاً:
-لا أريد عصفوري ميتًا
هوى قلبي في قدمي رعبًا حينما فعل ذلك، ركلت معترضة على أخذي قسرًا لكنه لم يتركني، ألقى بي على ظهر جواده هاتفًا:
-ستركبين معي يا حلوة!
ركلت بقدمي معترضة على أخذي قسرًا، بت فعليًا أسيرته، يفعل بي ما يحلو له، وبالطبع لن يكون إلا الأسوأ، أدعيتُ فقداني للوعي لأتحاشى قدر الإمكان تلميحاته اللئيمة، وإيحاءاته الغير مريحة لي، ورغمًا عني اتكأت برأسي على صدره لأبدو مقنعة أمامه، انطلت خدعتي عليه، وظن أن التعب قد أضناني، فأحاطني بذراعيه، وقربني أكثر إليه لتلتصق بشرتي بدرعه البارد، كان مستمتعًا باقترابي الشديد منه، بوجودي في أحضانه فألهب حواسه، على عكسي أنا التي كنت أحترق في اللحظة مائة مرة لوجودي معه، شعرت بتقلصات قوية تضرب أسفل معدتي، بآلام مبرحة تئن في كل عضلة من جسدي، قاومت رغبتي بالتقيؤ، لكني لم أتحمل المزيد من الاهتزازات العنيفة، فاعتدلت في جلستي مبتعدة عنه لأفرغ ما في جوفي، نظر لي بتقزز، ثم كركر ضاحكًا وهو يقول عابثًا:
-بضعة حركات لفرسي تفعل بكِ هذا، فكيف ستصدمين مع الوحش الكائن بداخلي؟
أدرت رأسي نحوه لأرمقه بأعين نارية، يا له من فظ وقح، أيظن أن استسلامي سهلاً؟ لن أمكنه مني حتى لو كان في ذلك هلاكي، لمحت بطرف عيني خنجره، للحظة فكرت بتهور في خطفه من غمده وطعنه به، ويا ليتني ما فعلت، باءت محاولتي البائسة بالفشل، أمسك برسغي يعتصره من الألم، التقط الخنجر بسهولة من بين أصابعي المرتعشة، رمقني بنظرات نارية هادرًا:
-أيتها الأفعى!
انكشفت حيلتي، فدفعني بقسوة عن الجواد لأسقط على ظهري صارخة من الألم، ترجل عن فرسه صائحًا:
-كنتِ تخدعينني، لن أمررها لكِ
زحفت متراجعة للخلف لأتحاشى هجومه الوحشي، أحنى جسده نحوي جاذبًا إياي من خصلات شعري، شعرت به يقتلعه من جذوره، صرخت مستغيثة، لكنه لم يرحمني، صفعني بقسوة على وجهي هادرًا:
-ستنالين عقابك أيتها اللعوب!
همست بنبرة مرتجفة وأنا أحمي وجهي من صفعاته المتلاحقة:
-اقتلني لأستريح
-ليس قبل أن .....
بتر عبارته عمدًا ليصل مراده إلى نفسي، شخصت أبصاري فزعًا منه، انقض عليَّ بشراسة مضاعفة منتويًا النيل مني، كانت مقاومتي له لن تقارن بهجومه الأهوج على شخصي، انهال عليَّ بالقبلات وأنا أكافح لإبعاد وجهه المقيت عني، نعم خنتُ عهد الحب، ولومت نفسي بقسوة لتفريطي في جزءٍ من عهدي، فقد وعدت رسلان ألا يلمسني أحد غيره، وها أنا - في نظري – أصبحت مستباحة لأبشع الأعداء، شعرت بيديه تحاولان انتزاع ردائي، بتلمس جسدي فصرخت حتى بح صوتي، أنجاني من براثنه أحد رجاله والذي اندفع نحوه يبعده عني هامسًا له بكلماتٍ لم أفهمها، وتلك المرة حرفيًا لم أشعر بما يدور حولي، فقد مادت بي الأرض وفقدت وعيي، لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك، فقد غبتُ عن الوعي حقاً ولم أفق إلا في ذلك الفراش الغريب، فتحت جفناي ذعراً متخيلة أن الأسوأ قد حدث، كنت ممددة على فراش حبيبي رسلان، تحاوطني عدة وصيفات، والحكيم وأشخاص أخرين ذوي أوجه مألوفة، نظرت لهم بغرابة متسائلة بفزع:
-أين أنا؟ وكيف جئتُ إلى هنا؟
حاولت النهوض لكن منعتني إحدى الوصيفات، صرخت مستغيثة بفزع فلم يسكن أصواتي إلا وجهه البشوش، رأيته وهو يخترق حشدهم المحاوط بي راسمًا على ثغره بسمة مطمئنة، تجمدت عيناي المتعبتين عليه، فلم أستطع أن أرمش، دنا من الفراش، وجلس على طرفه ثم سحب كفي من أسفل الغطاء، ورفعه إلى فمه ليقبله، ارتجف جسدي على إثر لمسته، وفتحت شفتاي لأنطق لكنه منعني بوضع إصبعه عليهما هامسًا لي:
-اهدئي غاليتي، لم يمسك أحد!
ترقرقت العبرات في مقلتاي خجلاً منه، لقد دنست بيد أحدهم، وتلوثت بعهرٍ لا يغتفر، أحنى رأسه للجانب ليقبلني من وجنتي متابعًا بنفس النبرة الهامسة:
-أنتِ معي الآن
أغمضت عيناي قهرًا وأنا أسأله بنبرة مخذولةٍ:
-كيف؟ وأنا....
لم يدعني أكمل جملتي للأخير، فقاطعني قائلاً بهدوء:
-سأقص عليك الأمر كله، فقط استرخي
كنت مشدودة الأعصاب، مرتعدة الأوصــال، شحوب وجهي يعكس طبيعة حالتي الجسدية، عاونني كي أتمدد على الفراش مجددًا، ثم مسح على جبيني برفق حتى هدأت رعشتي، انحنى علي ليطبع قبلة صغيرة وهو يهمس بصوته الآسر:
-لا تخافي شيئًا، فأنا معكِ
طالعته بأعين تتراقص فيها العبرات، قاومت رغبة في البكاء فرحًا وأنا إلى جواره وفي أحضانه، أشار إلى المتواجدين حولهم بيده ليبتعدوا، فمرت ثوانٍ معدودة قبل أن ينفرد بي، استطرد حديثه من جديد قائلاً:
-حينما وصلني مكتوبك، كنت أعد العدة للتدخل للمساعدة وإنقاذ المملكة، لكني جننت وأنا أقرأ كلماتك المستغيثة بي!
اختنق صوته وهو يتابع بصعوبة ملحوظة:
-خشيت أن يكون مكتوبك الأخير!
هربت رغمًا عني العبرات من مقلتاي متخذة طريقها في وجهي لتبلله، انغلق جفناي بضيق متخيلة احتمالية هلاكي، لكن شاءت الأقدار ألا يحدث ذلك، أحسست بأنامله تمسحها برفق، ففتحت عيناي لأنظر إليه، كان يرمقني بنظرات عاشقة حانية، أكمل حديثه بصوته الهادئ قائلاً:
-شعرت أن روحي تقتلع مني، فأمرت الجنود بالتحرك فورًا لتتبع أثرك
لاح على ثغري ابتسامة صغيرة من إقدامه على المجازفة من أجلي، أضاف بجدية:
-استعنت بأمهر مقتفيين الأثر لأصل إليك!
مرر رسلان ذراعه خلف عنقي ليرفعني إليه قليلاً، تقلصت المسافات بيننا وشعرت بأنفاسه تخترقني وهو يقول هامسًا:
-لم أكن لأتركك له!
انتفضت من تذكري لذلك الوقح، شعر برجفتي فزاد من ضمه لي، ابتسمت بضعف وأنا أشعر به يحتويني، وكأن في حضوره الطاغي سحرًا يحفزني على استعادة جأشي من جديد، تنفس بعمق مسترسلاً في الحديث:
-نصبت له الفخــاخ لأوقع به، كان ماكرًا بحق، لم أستسلم له، ونجحت في مسعاي حبيبتي، وحررتك من قبضته!
تلمس وجنتي برفق يداعبها برقة قائلاً:
-كنتِ غائبة عن الوعي، مريضة للغاية، طريحة فراشه بخيمته المقيتة بأحد الوديان
حاولت التذكر لكني فشلت تمامًا، وكأن ذلك الجزء قد اقتطع من عقلي، تنهد مضيفًا بضيق رأيته في نظراته:
-كدتِ تسلمين روحك لخالقك، خشيت وقتها أن أخسرك
سألته بتوترٍ:
-وماذا فعلت؟
أجابني بحرارة العاشقين:
-آهٍ نردين، لو تري حالتي لحظتها لظننتِ أن مسًا من الشيطان قد طالني!
ابتسمت برقة وقلبي يرقص بين ضلوعي بسعادة، امتقع وجهه حينما قال:
-رأيتُ ذلك الحقير يقتحم الخيمة، فلم أتحكم في نفسي، انقضضت عليه كانقضاض السباع على فرائسهم، لم أتركه إلا وقد نخرت عنقه بنصل سيفي
شهقت مصدومة مما قاله، أحقًا قتله وانتقم لعائلتي المسكينة؟ تهدجت أنفاسي بتوتر ملحوظ، بذلت مجهودًا ليس بالقليل لأهدئ من روعي، خبت انفعالاتي مع قبلة صغيرة منحني إياها على وجنتي ليتورد وجهي بحمرة مغرية، داعب أرنبة أنفي مضيفًا:
-تأكدت من موته، ثم أسرعت بحملك عائدًا بكِ إلى قلعتي!
أخــذ نفساً عميقاً، وزفره ببطء ليكمل بعدها:
-أشرف الحكيم على علاجك، وواظبت الوصيفات على متابعتك والاهتمام بصحتك وغذائك حتى تماثلتِ للشفاء
ابتسمت له ممتنة فهمس بجدية:
-وها أنتِ الآن معي، وسأعلن فور شفاءك زواجنا للجميع
هتفت بلا تردد وأنا أرمقه بنظراتي المتيمة:
-أحبك رسلان!
طوقت عنقه بذراعي وتعلقت به، ضمني إلى صدره للحظات قبل أن يبعدني عنه بتمهل، حدق في عيناي بنظرات خطيرة، ثم انحنى ببطء ليطبق على شفتاي بقبلة حسية عميقة بثت جزءًا ضئيلاً من مشاعره الفياضة نحوي، توقف لألتقط أنفاسي فهمس لي:
-وأنا أحبك أسيرة قلبي!
أشار لي بعينيه لالتفت برأسي نحو الجانب، رأيتُ حمامتي الزاجلة في قفصها، انفرجت شفتاي باندهاش وأنا أقول:
-إنها هنا!
حرك رأسه بإيماءة خفيفة هامسًا:
-وهل أفرط فيما يخصك؟
رمقته بنظرات عاشقة ثم احتضنته بقوة، أدركتُ وقتها أهمية هديته الغالية، وأنها كانت سبب نجاتي من أفظع المصائر، كان مصيبًا في رأيه، وأنا أخطأت في سخريتي منها، لاحقًا اعترفت له:
-كنت غبية، سامحني لسذاجتي!
مسد على شعري قائلاً بعبث:
-سأسامحك بشرط!
سألته بفضول:
-ما هو؟
غمز لي هامسًا بمكر وهو يمددني على الفراش:
-سأخبرك حينما نتزوج!
لكزته في صدره بغيظ، فقد كان يتسلى معي، لكني أحببت طريقته في مداواة آلامي وفي إجباري على نسيان تلك الفترة القاسية من حياتي لأحفر كبديل عنها ذكريات حب وُلد بين رحايا الحرب كان محركه الرئيسي مَكْتُوبِي الْأَخِير.
_تمت_
0 تعليقات