قصة (افاقة بعد الغشاوة)

(افاقة بعد الغشاوة)

فى يوم مشمس بوقت الظهيرة حيث تفترش الشمس كبد السماء الزرقاء الصافية دون غيوم تسرق صفوها ، تستقبل زائريها من الطيور الطائرة بصدر رحب ، تسمح لهم بالعبور دون رفض ، كيف لا و هى الطيور التى يمسكهن الرحمن عن الوقوع مصفوفات فى جو السماء؟! ، إلى جانبهن الطائرات الإلكترونية التى صنعها الإنسان و اتقنها بما فيه خدمة لبنى آدم ، فكانت إحداهن مبتعدة عن الحدود المصرية ترتفع تدريجيا بسرعة قصوى نحو السماء متجهة شرقا إلى الخطوط السعودية حيث مطار جدة هو الهدف الذى يستقبل وفدا جديدا مصريا من المعتمرين ، فكان الأغلب من الركاب داخلها بثياب الإحرام منتظرين الوصول على أحر من الجمر ، و كانت الغالبية العظمى يمسكون بكتب دينية مختصة بكيفية الإحرام يقرؤونها بامعان لخطوات شعائر العمرة حتى يتم أداؤها على وجه كامل باركانها الصحيحة ، مغايرا أمرهم لرجل واحد من الأقلية مسندا رأسه الى الخلف مديرا إياها باتجاه النافذة حيث يرمق المنظر البديع جانبه بإعجاب و ابتسامة طفيفة مزينة ثغره المحاط باللحية النابتة حديثا ، لم يقطع شروده سوى صوت الجالس بجانبه الذى ترك كتابه يرمق زميله الشريد بالنافذة ، قائلا فى تعجب مبتدئا الحديث و هو يغلق كتابه:
_ عجيب! ، هل انت حافظ لمناسك العمرة كاملة؟!
رفع حاجبيه سريعا و كأنه أفاق من غيبته ليلتفت الى مصدر الصوت على يمينه فيجد رجلا ثلاثينيا كحاله يرمقه بعيون بريقة متوهجة تشير إلى مدى لهفته و سعادته بالذهاب إلى بيت الله ، ليحمحم ثم يقول مجيبا السؤال الذى ألقى عليه توا بنبرة هادئة مستكينة: 
_ لا لست حافظا إياها و لكنى قرأتها كثيرا بحيث علمت كل خطواتها و إذا استعصى على أمر أعود إلى الكتاب
ابتسم ذلك الزميل ثم عاد يقول بنبرة فضولية متسائلا:
_ وجدتك تنظر الى السماء جانبك بهيام و تأمل شديدين ، هل هذا حب للسماء ام تفكر بشئ ما؟!
تناول الشريد شهيقا هادئا بطيئا حتى امتلأت رئتيه بالهواء ليتحدث بنشيج ظهر بين طيات حباله الصوتية:
_ ذكريات أحاول نسيانها و لكن تأبى ، فكان النظر الى السماء الصافية و جوناؤها الذهبية سببا فى الهائى ، و بينما أتأمل بهذا المنظر فكرت بتساؤل كيف لم الحظ هذا الإبداع من قبل؟! ، لقد شغلتنى الحياة الدنيا و همومها حتى نسيت التفكر بخلق الله ، حتى نسيت ان لكل أجل كتاب و ان عمرى محتوم منذ أتيت إلى هذه الحياة ، حتى نسيت ان الدار الآخرة هى الحيوان و انى سأقف يوم الحشر يسألني ربى عن عمرى الذى افنيته فى رماد من الأعمال!
عقد الثانى حاجبيه فى حيرة مما سمع من هذا الشاب الرزين ليقول مستنتجا بنبرة مؤكدة:
_ يبدو أن لك حكاية طويلة صعبة النسيان
ثم وضع يده على كف رفيقه قائلا:
_ هل يمكننى سماعها إذا لم يكن هذا ليضايقك؟!
لوى فمه فى سخرية ليقول بوجه ممتقع و نبرة واجمة:
_ لا أظن انك ستحدثنى ثانية بعد السماع ، إذا كنت أنظر إلى نفسى بمقت و استحقار حتى الآن ، فكيف أنت؟
أردف زميله بنبرة تشجيع يحثه على الكلام:
_ جربنى و لا تكتم بصدرك يا صديقى علك ترتاح و تزيح حملا من الأثقال بحجم جبال بعد روايتك لها
أغمض الأول عينيه فى محاولة لاخفائهما عنه حتى لا يرى شبح الغشاوة التى حلت عليهما حيث تجاهدان لإخراج العبرات من المحابس ، بينما ينطق فمه بنبرة اختناق إثر الدموع التى يكبحها عن الخروج:
_ ولدت بمنزل متوسط بالصعيد ، و كنت الفرحة الأولى لوالداى و حفيد العائلة البكرى ، فلم يكن تزوج أحد آخر من اعمامى ، و ما لبث أن عقبنى اخى الاصغر بعامين ليصبح صديقى و توأمى على الرغم من حداثة عمره ، فكنت اشركه بكل ما أفعل ، و ساعدت بذلك والدتنا التى لم تؤثر أحدنا على الآخر قط ، كان منزلنا مستقرا لا تشوبه شائبة او تنقصه عاطفة حتى جاء اليوم المشؤوم بعد ان أصاب أمى المرض الخبيث لتفارقنا الحياة بعد معرفتها الخبر بأيام ، تاركة إيانا على مشارف إتمام العقد الأول من أعمارنا ، مخلفة ذكرى جميلة حزينة حفرت بقلوبنا لا نستطيع نسيانها ، و كان والدى يحب أمى كثيرا و لم يود الزواج بأخرى إحياء لذكراها ، و لكن بإصرار العائلة و بحكم عمله تزوج أخرى من القرية المجاورة ، كانت صغيرة على أعتاب العشرين من عمرها ، عاملتنا بالحسنى و لكننا كرهناها و لم نبادلها سوى بالبغضاء ، فقوبلت حسنتها بسيئاتنا ، و كان المساعد بذلك هم اعمامى الذين كانوا يكرهونها للغاية 
ثم التفت إليه يقول فى استغراب:
_ و حتى يومنا هذا لا أعرف ما سبب هذه العداوة لها؟! 
ثم استرسل مكملا و قد عادت جفونه إلى الإغلاق على مقلتيه كما كانت:
_ و بعد مرور السنين و قد حصلت على شهادة الدبلوم انتقل والدى إلى القاهرة بعد ان كون ما يكفى من المال لشراء منزل بقدر مائة متر يقطن فيه مع زوجه الثانية و أولادها الثلاثة ، لم أوافق على الانتقال متحججا بالجيش بينما برر اخى بأنه لا يريد ترك اعمامه الأحباب ، و كانت تمر الأيام و تزداد عداوتنا لها تلقائيا دون مبرر او سبب كاف بل كنا نحاول اصطياد الأخطاء لها و لكن دون جدوى ، فلقد تحملت والدى لأقصى حد ، حتى بعدما ظهرت عليه أعراض مرض الكبد كانت له خير معين مدبر لشؤونه ، إلى جانب ذلك فكانت نتيجة حسن تدبيرها و بيع أبى لقطعة من أرضه تكوين خمس طوابق آخرين فوق المنزل ليتم استئجار السكان به ، حتى أتت اللحظة الحاسمة و التى توفى فيها والدى تاركا إيانا امواتا على قيد الحياة ، فكان مرضه قد أخذ وقتا طويلا يعذبه و كنت انا و اخى نجافيه بالزيارات المقترة ، و كان من المفترض الشعور بالذنب نحوه و لكن غضبنا و وسوسة إبليس الى جانب اعمامنا عمونا عما يفترض القيام به ، حتى وصل بى الأمر بعد انتهاء اليوم الثالث من أيام العزاء ان نطقت بذلك القرار المفيد ببيع العمارة التى تأوى زوجة والدى و اخوتى بها
توقف لوهلات يحاول استرداد أنفاسه الغير منتظمة ملتفتا إلى المستمع بجانبه ليجده يرمقه بنظرات مبهمة لا يعرف فحواها ، اهى حادة ام مشدوهة ام غاضبة؟! ، و لكنه استرسل قائلا بنبرة مثقلة بآلام تذكر الموقف العصيب:
_ حينها وقفت زوجة والدى بوجهى تثنينى عما انوى فعله حيث لا ملجأ لها و لأولادها سوى هذا البيت ، و لكن زاد عزمى و تصميمى حفاوة خاصة بعد تشجيع اخى الصغير و اعمامى لهذا القرار -الحكيم من وجهة نظرهم- لتجلس هى على الاريكة صارخة بجزع:
_ حسبى الله و نعم الوكيل ، سيريكم الله ثمن تشريد زوجة ابيكم و أبنائه الذين من دمكم
ثم نكس رأسه فى خزى قائلا و قد فرت عبرة ساخنة من مقلته سائرة على وجنته قائلا بحسرة:
_ و لا أستطيع نسيان هذه الجملة و لا نبرتها المستنجدة ما دمت حيا ، و لكن حينها كانت توجد غشاوة على قلبى لاتجاهل دموع هذه العاجزة هناك و اظل عازمة على قرارى ، و مرت الأيام و نحن بانتظار المحامى لتقسيم التركة قبل بيع المنزل ، لتأتى الصدمة الكبرى و الصاعقة المهلكة حيث علمنا بكتابة البيت المتكون من ستة طوابق باسم زوجته بينما احصل انا و اخى على قطعة الأرض المقدرة ب سبعين ألفا!! 
التقط شهيقا سريعا ثم أكمل بنبرة منفعلة غير مصدقة حتى الآن:
_ غضبت صرخت بكيت لم اجد من يواسينى ولا حتى أخى الذى اعددته رفيق دربى! 
ثم هدأت نبرته سريعا عندما استطرد قائلا:
_ و حينما افقت من آثار الدموع الجافة على اهدابى ، عرفت حكمة ربى بما حدث ، فكما يقال انا أشاء و انت تشاء و الله يفعل ما يشاء ، كانت تلك هى الحكمة الإلهية التى جعلت ابى واعيا بما سيحدث حيث أراد تأمين مستقبل اخوتى الصغار و تربيتهم دون عناء او مشقة و قد تأكد من استحالة بقائه لتربيتهم مثلنا ، بينما حصلت انا و اخى على حقنا و كما قضت نوايانا الخبيثة
ثم وضع يده على وجنته يزيح الدمعة التى فرت تشق وجهه ، ثم التفت إلى زميله قائلا بنبرة جادة:
_ لقد أخذت نقود تركتى لأداء العمرة علها تنقى ذنوبى و تغسلها ، داعيا ربى الرحمة و غفران ما أقدمت عليه من خطايا شنيعة فى حق الكثير من الأحباب
ثم صمت للحظات يستشف ردة فعل الأخير و التى كانت هادئة تماما عكس ما توقع حيث ربت على منكبه قائلا بابتسامة متوهجة:
_ اعرف ان العمرة و الحج قد يقبلا او لا يقبلا حسب نية مؤدى الفريضة ، و لكننى متأكد ان اداؤك للمناسك سيقبل بأمر الكريم سبحانه و تعالى
نظر إليه الأخير فى دهشة و ذهول غير مصدقا ما يقول هذا من تأكيد كهذا لعاص مثله! ، بينما أكمل هو على نفس الابتسامة المشرقة مؤكدا:
_ لو لم يكن الله سيقبلها لما جعلك تشعر بجرم ما اقترفت قبل أيام ، فلقد أنعم عليك سبحانه بنعمة التوبة قبل الممات ، لقد أنعم عليك بسرعة اللحاق بفلك المستغفرين قبل انقضاء الأجل و يصير جسدك تراب ، لقد منحك الرزاق الافاقة بعد الغشاوة بالوقت مناسب دون ندم او عذاب
أخذت ملامح الأخير بالسكينة تدريجيا حتى انفك تقلص حزنها ليفتر ثغره عن ابتسامة واهية يتبعها بقوله شاكرا:
_ اشكرك كثيرا على تلك الكلمات التى أسهمت كثيرا فى التقليل من شعور الذنب لدى يا صديقى
ربت الثانى على منكبه قائلا بنبرة سمحة:
_ لا شكر بين الأخوة فى الإسلام يا رجل ، ليغفر الله لى و لك بعد هذه الرحلة الروحانية ان شاء الله

إرسال تعليق

0 تعليقات