قصة الصراخ الصامت بقلم اسراء عبد القادر _مجلة الشفق

قصة حقيقية عن أثر الطلاق على ابنة بريئة لا حول لها ولا قوة
كاملة❤❤❤
إسراء عبدالقادر الوزير
((الصراخ الصامت))
-بمبنى كبير المساحة ، تمشى بخطوات هادئة على أرضية تلك الساحة الطويلة ، هذه الساحة التى تملك أبوابا عديدة متباعدة على مسافات متساوية ، تتجه نحو غرفة بعينها تبحث عنها بقلبها قبل عينها ، متجاهلة أصوات أولئك المارين بجانبها فى اتجاهات مختلفة يغلب على أزيائهم اللون الأبيض ، و هو نفس اللون الأصم المصاحب لأبواب الغرف و الجدران ؛ فهذا المكان هو مركز لإعادة التأهيل النفسى ، لمعالجة أولئك الذين يملكون عقدات نفسية لابد من فك عقلاتها قبل أن تؤثر على أجهزتهم العضوية أو تصل بهم لغولاء الانتحار و ما إلى ذلك من الكوارث ، و من هؤلاء المساكين تلك الفتاة التى تتحرك بشكل ثابت إلى حد ما نحو وجهتها المقصودة ، و كأنها تترك خلفها تلك العقدات باختراقها لجدران هذه الجهة! ، طرقت الباب بخفة ثم انتظرت لوهلات حتى سمعت من الداخل صوتا أنثويا أربعينيا يقول:
"تفضل"
-دلفت الفتاة إلى الغرفة لتنفرج أسارير السيدة الأربعينية قائلة بحب:
"أهلا بك يا حبيبة ، تعالى يا عزيزتى"
-اقتربت حبيبة و ابتسامة جلية علت محياها فور رؤيتها لهذه السيدة صاحبة الإبتسامة الصادقة ، ما أن جلست حبيبة ، قالت السيدة ناظرة إليها بتفحص:
"هل استأذنت الطبيب قبل مجيئك إلى هنا؟"
-أومأت حبيبة برأسها لتقول السيدة:
"أحسنت صنعا ، و ما..."
-قطع كلمتها دخول الممرضة و معها صينية من الطعام لتقول السيدة بابتسامة:
"سأتناول فطورى الآن"
-ثم نظرت إليها قائلة بتساؤل:
"أخبرينى هل تناولت فطورك؟"
-أومأت حبيبة ثانية و لكن هذه المرة مع ثقة أقل من سابقتها مما جعل السيدة تقول بشك:
"هل تكذبين على؟ ، ألم تتناولى فطورك؟"
-هزت حبيبة رأسها نفيا لتقول السيدة بقلق:
"لماذا يا حبيبة؟ ، و كيف سمحت لك الممرضة بترك طعامك دون إنهائه؟"
-أخذت حبيبة فى صنع حركات بأصابع يديها إشارة إلى الآتى:
((لقد ألقيت الطعام فى القمامة قبل ان تلحظ الممرضة))
*السيدة بدهشة:
"و لماذا؟!"
-عادت حبيبة تصنع الإشارات مجددا قاصدة:
((لقد وجدت سمك تونة على الفطور و أنت تعرفين كم أكره السمك))
*السيدة بابتسامة:
"و لكن السمك مفيد جدا لأمثالنا فهو يغذى خلايا العقل و يمنحها الطاقة و الحيوية ، و إلقاؤك للطعام يعنى أنك تناولت الدواء على معدة فارغة و هذا بحد ذاته فى غاية الخطورة"
-ثم أردفت بعتاب:
"كان من المفترض أن لا تقومى بمثل هذه الفعلة أبدا ، فهذه ليست أفعال راشدين"
-تنهدت حبيبة بحزن بينما تابعت السيدة:
"ستتناولى طعام التونة من بين يدى اليوم و أعدك ستحبينها جدا"
-حاولت حبيبة ان تبدى اعتراضا و لكن أوقفتها السيدة قائلة:
"لو رفضت سأخبر الطبيب بإلقاءك للطعام و تناولك للدواء على معدة خاوية"
-زفرت حبيبة بضيق ثم أومأت برأسها إشارة للاستسلام لتمسك السيدة بأول قطعة من الخبز ثم تمزجها بقطعة من السمك و تضعها أمام فم حبيبة التى نظرت إلى تلك اللقمة بضيق ثم أغمضت عينيها و أدخلتها بفمها محاولة كتم أنفاسها كى لا تشعر بالغثيان من رائحتها داخل تجويف فمها ، بينما قالت السيدة بابتسامة:
"فتاة جميلة"
-ابتسمت حبيبة رغم ما تشعر به من اشمئزاز بينما تابعت السيدة بإطعام نفسها و إطعام تلك اليافعة بجانبها ، و أثناء تناول حبيبة لهذه الوجبة التى تبغضها مرت على ذاكرتها بعض الأشرطة القديمة التى ودت لو تضرم بها النار و تنثر رمادها بماء البحر كى تنسى تلك الأحداث المشينة التى تعكر صفو حياتها و تضفى عليها طعما أشد لذوعة من تلك الوجبة التى تتناولها ، تحرك فمها بقوة كى تتخلص من مذاق السمك بسرعة و لكنها لا تقوى على فعل شئ حيال تلك الأيام السوداء ، لتقول بداخلها بتعجب:
"عجبا لك أيها الفم! ، تملك العديد من الوظائف التى لابد من تأديتها بصفة دورية لأجل صالح الجسد ، بك الحنجرة التى تحوى المرئ و هو عامل توصيل الطعام منك إلى المعدة لتبدأ عملية الهضم ، هذا إلى جانب إصدارها للعديد من الأصوات التى تساعد فى التواصل بين بشرى و آخر ، و بك الأسنان التى تقطع الطعام و تطحنه استعدادا للوصول إلى البلعوم و المرئ ، و بك عضو اللسان الذى يقلب الطعام بشكل دائم حتى تتم عملية التقطيع بنجاح و هو أيضا مترجم فورى و ممتاز لتلك الأصوات القادمة من الحنجرة حتى تتم العملية المسماة بالكلام ، إلى جانب وجود الشفتان اللتان تساعدان على إظهار الأصوات المطبقة ، و لكنى لا أصل إلى أى من فوائدك عدا تلك الخاصة بالطعام و الوصول إلى الهضم! ، أين الصوت يا حنجرة؟ ، أين الترجمة أيها اللسان؟ ، أين الأصوات المطبقة يا شفتان؟ ، هل انتهى بكم المطاف عند هذا الحد؟! ، أم وجدتم أن لا مفر من صرخاتى سوى بإسكاتكم لصوتى بهذه الطريقة؟ ، يا إلهى و لكن من أعاتب؟ ، على الأقل لم تتوقفوا من تلقاء أنفسكم بل بعد تعرضكم لضغط نفسى حاد أثاره بكائى و ندمى على ما أوتيت من حظ عاثر ، على عكس من تخليا عنى بملء إرادتهما و دون التعرض لأى ضغط أو تهديد سابق! ، هذا إلى جانب توقفكم عن العمل بعد فترة دامت لتسعة عشر عاما بخلاف من تركانى و أنا قطعة لحم
صغيرة تحتوينى أحضان ملاءة بيضاء كانت أكثر حنانا منهما!!"
-و نسيت حبيبة مذاق السمك نهائيا بعدما أبى العقل إلا و يعود بالذكرى مجددا إلى ما روى لها وقت ولادتها ، حيث كانت تحملها سيدة مسنة بين ذراعيها تنظر إلى تلك المستلقية على السرير مديرة رأسها باتجاه النافذة بوجوم ، اقتربت منها السيدة قائلة ببشاشة:
"مبارك يا نوال ، لقد رزقت بطفلة كالقمر"
-ظلت هذه المستلقية تنظر إلى الفراغ دون أن تحرك ساكنا لتكمل السيدة بتساؤل:
"ألن ترى طفلتك على الأقل؟"
*نوال بوهن و حزن:
"ابعديها يا أمى"
*السيدة بدهشة:
"ألهذه الدرجة تكرهين طفلتك و هى قطعة منك؟"
*نوال مع عبرات حارة تخرج من عينيها:
"لم أكن لأكره طفلتى يوما ، و لكن والدها هو من جعلنى أكرهه و أكره كل ما يخصه"
*السيدة بتهكم:
"و ما ذنب طفلة بريئة قدمت من زواج لم يتمم الشهرين؟! ، ألم يكن هذا اختيارك من البداية رغم ما حاولت ردعك عنه؟! ، تزوجت ابن رجل الأعمال الواصل بكل نفس راضية و الآن أنت ترفضى استدارة رأسك لرؤية طفلتك؟!"
*نوال بغل واضح:
"لقد تزوج سريعا فور طلاقنا ، أما أنا فبقيت مقيدة بطفلته داخل رحمى لتسعة أشهر ، لا أحب هذه الطفلة ، وجودها يخنقنى"
-ثم أردفت بإصرار:
"و لكنى لن أتوقف عما كنت أقوم به فى السابق ، فسوف أعود لجمعياتى اللواتى أعمل بهن ، و سأتزوج عاصم الذى يعشق تراب قدمى ، فلن أقف عند حد البكاء ، و لن توقفنى هذه الطفلة عن القيام بأهدافى"
-حاولت والدتها اثناؤها عن ما تقول و لكن أوقفتها نوال و هى تغمض عينيها قائلة بغضب:
"و الآن هيا اخرجى بها من هنا ، هيااا"
-قالت الممرضة بسرعة:
"لو سمحت يا سيدة ، امتثلى لأمرها قبل ان تتأذى"
-أومأت المسنة برأسها ثم خرجت بالطفلة و علامات الحزن و الانكسار باديتان على وجهها ، نظرت إلى الطفلة الصغيرة التى تحاول أن تفتح عينيها بصعوبة و لكن لا تقوى على ذلك بسبب شدة الإضاءة ، لتبتسم إليها ثم تقول:
"لا تقلقى يا حبيبتى ، إن كانت والدتك لا تريد رؤيتك و كذلك والدك الذى لم يكلف نفسه بالمجئ ، فأنا هنا ، سأكون والدك و والدتك ، سأعوضك عن حنانهما فلقد أصبحت حبيبتى و رفيقتى يا حبيبة"

-و بالفعل تزوجت والدتها فى الوقت الذى أنجب والدها صبيا من زوجته الثانية ، و أخذت الجدة برعاية الرضيعة حتى كبرت عدة سنوات و أصبحت تذهب إلى المدرسة بعامها الأول فيها ، و هنا بدأت الأسئلة فى التناوب بين الحين و الآخر على رأسها ، أسئلة من الطبيعى أن لا تجد لها إجابة ، أسئلة نشأت من أبسط المواقف ، أولاها ملاحظتها لإتيان والدة كل طفل لاصطحابه نحو المنزل ، بينما كانت تأتى خادمة جدتها (والدتها) فى نظرها لاصطحابها للمنزل دائما حيث أن جدتها لا تستطيع الخروج يوميا بسبب هرم صحتها ، و تكاسل أعضائها ، و على الرغم من إخبار جدتها لها بأنها تكون أمها و أن والدها متوفى ، إلا أن قلب حبيبة كان يشعر دائما بحلقة ناقصة ، حلقة لابد من استيعابها و لكن كانت جدتها تحاول إحاطتها بكل ما أوتيت من قوة لئلا تتفتح خلايا عقلها و تصل إلى تلك الحقيقة المرة ، و كانت تكفى الطفلة اهتمام والدتها بها فى كل لحظة من حياتها فكانت حبيية بالفعل ابنتها الثانية التى لم تستطع إنجابها بعد نوال بسبب ورم لعين جعلها تفقد رحمها ، فلم تكن لتتخلى عن حبيبة كما تخلى عنها والداها و لم يستطيعوا التوصل لأخبارها سوى عن طريق إرسال رزمات من المال شهريا ، فهم لم يقصروا بحقها من وجهة نظرهم!!

-صدق المثل القائل (حبل الكذب قصير) ، فمهما كانت قوة الكذبة و العدة المقامة لأجل تدعيمها إلا أنها تكفيها لحظة واحدة لتنهار و يبطل ما جاء معها من دلائل ، و كان ذلك فى يوم الثلاثاء عام 2013 حيث كان عمر حبيبة أربعة عشر عاما ، فلقد عادت حبيبة من مدرستها ثم صعدت السلم بسرعة شديدة و فتحت باب إحدى الغرف بلا استئذان قائلة فى فزع:
"أمى ما بك؟"
*الجدة بابتسامة واهنة:
"لا تقلقى يا عزيزتى إنه مجرد ألم بسيط"
-اقتربت حبيبة من جدتها ثم قالت بعتاب:
"هذا بسبب نسيانك لدوائك بشكل دائم ، و الآن سأشرف على رعايتك بنفسى"
*الجدة باعتراض:
"و لكن المدرسة..."
*حبيبة مقاطعة بإصرار:
"لا أريد سماع اعتراضات ، ستقومين بما أقول فقط ، و الآن تناولى غدائك و انا سأغتسل ثم أعود بالدواء"
-أومأت الجدة باستسلام بينما خرجت حبيبة من الغرفة و قد هدأت دقات قلبها عن الخفقان القلق
-و بالفعل بعد مرور نصف ساعة اقتربت حبيبة من الغرفة و بيدها شريط دواء بيد و كوب ماء باليد الأخرى و قبل ان تطرق الباب سمعت جدتها تقول بانفعال:
"أنت لست بابنتى أبدا ، نسيت والدتك التى قامت على تربيتك و لم تكلفى نفسك بالقدوم حتى؟! ، و لكن مع من أتحدث؟ ، أتحدث مع تلك التى تركت طفلتها معى و لم يتحرك بها ساكنا أبدا!..انتهينا هيا أغلقى الخط"
-وقع كل من الدواء و كوب الماء من يد حبيبة ليخفق قلب الجدة بسرعة فتقول بقلق:
"من هناك؟"
-دلفت حبيبة إلى الغرفة و عيناها قد تحولتا إلى كتلتين من الجمر المشتعل تنظر إلى جدتها بشكل ثاقب قائلة ببكاء:
"مع من كنت
تتحدثين يا أمى؟"
-ثم أردفت مع عبرات منكسرة:
"أم أقول مع من كنت تتحدثين يا جدتى؟"
*الجدة بسرعة:
"حبيبتى هذه...."
*حبيبة مقاطعة بصراخ:
"لا تكذبى و أطلعينى بالحقيقة كاملة بدون مماطلة فلقد اكتفيت"
-تنهدت الجدة بتعب ثم اضطرت لسرد ما حدث بإهمال والديها لها منذ أن كانت رضيعة و حتى هذه اللحظة ، و انشغال كل منهما بحياته مع شريكه الآخر و أولاده ، لتقف حبيبة ثم تقول بحزن:
"إذا فهذا الشعور الذى كان يخالجنى لم يكن وهما على الإطلاق بل كنت محقة عندما كنت أرى فيك جدتى لا أمى ، و صدقينى لم يكن ذلك بسبب سنك أو ما إلى ذلك ، بل كان قلبى الذى يشعر بحلقة مفقودة لابد من إيضاحها لاكتمال الصورة"
-ثم نظرت إلى جدتها قائلة ببكاء:
"و لكن ما سبب تفضيل اطفالهما على يا جدتى؟ الست طفلتهما أيضا؟!"
-لم تتحمل الجدة سماع المزيد فوضعت يدها على قلبها المتألم مع إطلاقها لآهات متكررة مما جعل حبيبة تقف بسرعة ثم تتجه نحو جدتها قائلة بقلق:
"ما بك يا جدتى؟ ، اصمدى سآتى بالطبيب"

-بعد أن خرج الطبيب من الغرفة أسرعت إليه حبيبة قائلة بقلق:
"ما الأمر؟ ، طمئنى أيها الطبيب ما بال جدتى؟"
*الطبيب:
"قلبها ضعيف جدا بسبب عدم اهتمامها بطعامها ، إلى جانب تعرضها لصدمة قوية ، من الأفضل أن لا تتعرض الفترة القادمة لأى نوع من الضغوطات"
-اومأت حبيبة برأسها ثم عقدت العزم على أن لا تسأل جدتها عن هذا الموضوع مجددا فلقد فقدت والدين لتوها و لا تقوى على فقد هذه السيدة الكريمة أيضا ، ستبقى معها لآخر أنفاسها فهى عائلتها الوحيدة و كنزها ، و بقيت الأسئلة تتزايد يوما بعد يوم و الحيرة تزداد بكل دقيقة ، عرفت أن لديها أخت من والدتها تسمى شهد ، و كان السؤال هنا ، لم تفضل نوال شهد على حبيبة؟ ، هل شهد مذاقها كالشهد و حبيبة مذاقها كالعلقم؟ ، و أيضا الأستاذ سامح الأبنودي الذى كل ما يربطها به هو اقتران اسمه باسمها فى شهادة الميلاد ، لم يفضل أبناؤه محمد و عبدالرحمن عليها؟ ، هل لأن خير الأسماء ما حمد و عبد؟ ، و إن كانت الإجابة بالمسميات فهى اسمها حبيبة و رغم ذلك لم تكن لأحدهما حبيبة! ، ظلت الأسئلة فى تفاقم مع مرور الوقت حتى تحول طلب الإجابة عنها إلى نداء استغاثة يصاحبه صرخات داخلها لا تقوى على الخروج و عبرات ساخنة تحبسها الجفون..

-و فى يوم كانت حبيبة تتلقى بريد اليوم عن جدتها ثم فوجئت بظرف به رزمة من المال ، مكتوب عليه "من سامح الأبنودي" ، و من وقتها أخذت حبيبة بالبحث و التقصى فى مكتب البريد عن المكان الذى أتى منه هذا الظرف لتعرف أن فيلا والدها توجد فى الحى السابع بمدينة نصر ، و هنا كان لابد من إقامة خطوة واحدة و هى الذهاب إلى هناك لمقابلة والدها وجها لوجه..

-فى ذات صباح؛ وقفت حبيبة أمام باب الفيلا الضخمة محاولة الثبات حتى تستطيع التصرف على نحو صحيح ، فكان كل ما تريد هو جعل والدها يراها عل قلبه يرق و يحتويها بأحضانه ، دلفت حبيبة إلى داخل الفيلا ثم جلست ف الصالون حتى أتتها سيدة بنهاية العقد الرابع مكتسبة بعض الوزن تمشى بثقة شديدة رغم هذا الحذاء العالى الذى تنتعله ، تنظر إلى حبيبة بطرف عينها قائلة بغرور:
"نعم يا بنت ، هل تريدين شيئا؟"
*حبيبة بصمود:
"أين السيد سامح؟"
*السيدة بتساؤل:
"و لم تريدينه؟"
*حبيبة:
"أمر خاص"
-همت السيدة بالرد بشكل قاس و لكن اوقفها صوت سامح قائلا:
"لحظة يا هناء"
-ثم و بوهلة واحدة تبدلت علامات وجهه من الهدوء و الاسترخاء إلى الدهشة و السخط ليقول بغضب:
"ما الذى أتى بك إلى هنا؟"
*حبيبة:
"إذا أنت تعرف من أنا!"
*هناء باستنكار:
"ما بك يا سامح؟ ، و من هذه؟"
*حبيبة بصمود:
"انا حبيبة سامح الأبنودي ، ابنة السيد سامح الأبنودي"
-و كان لكم أن تتخيلوا ما تم القيام به بعد ذلك ، فعلى خلاف العادة بدلا من احتواء الأب المتكبر لابنته بين ذراعيه قام بطردها من بيته بمساعدة زوجته ، بل و حتى أولاده أطلقا عليها أبشع الألفاظ و آخر ما حفظ فى ذاكرتها من كلمات رديئة "أنت لست ابنتى ، بل خطأ نادم عليه إلى الآن" ، و بسبب تألم حبيبة مما قيل لها وجدت أنه من الأفضل ألا يتكرر الأمر مع والدتها فسوف تحصل على نفس الإجابة ، و فقدت حبيبة آخر طوق نجاة من ابتعاد الأبوين عنها و غولاء تفضيل إخوانها عليها! ، و عادت الصرخات تدوى داخل قلبها من جديد باحثة عن الراحة و لكنها لم تصل إليها بعد! ، و ما زاد الطين بلة هو ذهاب روح جدتها إلى بارئها بعد التحاق حبيبة بالجامعة بأسبوعين و هذه كانت الضربة القاضية و الإصابة المميتة و الأمل الأخير للحياة ، و ما كان من نوال سوى أن تتكفل بمصروفات القبر و أداء واجب العزاء ثم العودة مجددا إلى منزلها دون التفكير بابنتها التى لم تتجاوز التاسعة عشر!!

-انقضى شهران كاملان و حبيبة لم تخرج من بيتها بتاتا حتى وردها اتصال هاتفى من زميلتها لتجيب قائلة:
"أهلا يا سارة"
*سارة:
"كيف حالك يا حبيبة؟ ، البقاء لله"
*حبيبة:
"سبحان من له الدوام"
*سارة:
"لقد اتصلت بك لتعزيتك و لأخبرك بأن تأت للمحاضرات هذه الأيام فلقد اقترب موعد الامتحانات"
*حبيبة بوجوم:
"حسنا
سآتى من الغد"

-و فى اليوم التالى؛ انقضت المحاضرة أخيرا بعدما تملك الملل من حبيبة التى قامت و هى تزفر فى ضيق ، و أثناء خروجها من المحاضرة أوقفها شاب طويل البنية ذا عيون عسلية و أنف مستقيم و شفتان مكتنزتان قائلا بابتسامة:
"انتظرى لو سمحتى"
-توقفت حبيبة ثم قالت بهدوء:
"نعم"
*الشاب مادا يده إليها:
"انا باسم محمد معك فى الفرقة ، و لقد لحظت أنها المرة الأولى التى تأتين فيها إلى الكلية ، و أردت إخبارك بأنى أملك جميع المحاضرات السابقة و إذا أمكن التواصل بيننا كى أوصلك إياها"
*حبيبة بتهكم:
"شكرا يا سيد باسم محمد ، معى المحاضرات مسبقا و لو لم تكن معى لم أكن لأحدثك ، وفر مجهودك"
-ذهبت من امامه سريعا بينما اقترب منه زميله قائلا:
"فتاة صلبة جامدة ، لقد نالت منك يا صديقى"
*باسم بخبث:
"و ما أجمل هذا النوع من الفتيات ، سأجعل هذه الصلبة تلين و تصبح كقطعة العجين أشكلها كيفما أريد"

-و بالفعل قام باسم باستخدام شتى الطرق و الأساليب الماهرة كى يوقع هذه الفتاة بشباكه ، على الرغم من جمودها و صعوبة الوصول إليها إلا أنه يستمتع بالأمر كثيرا خاصة بعدما وصل إلى نقطة ضعفها و هى شعورها بالنقص الدائم بسبب ترك أبويها لها ، و هنا بدأ العنكبوت بنسج خيوطه حول الفراشة حاكما الغلق عليها من خلال جعلها تشعر بأنها المميزة عن البقية ، يجعلها تعرف قيمتها الحقيقية و باستخدام اجمل الكلمات التى لطالما احتاجت سماعها حتى لو من قبيل المجاملة ، فلقد شعرت أخيرا بالابتسامة تتسلل إلى شفاهها بعد طول فترة من البكاء و الصراخ الصامتين!! ، حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم حينما ورد حبيبة اتصال هاتفى لتجيب قائلة:
"نعم"
*باسم:
"كيف حالك يا حبيبة؟"
*حبيبة بابتسامة جلية على محياها:
"بخير و أنت؟"
*باسم:
"جيد ، لقد اتصلت لكى أخبرك بأن اليوم هو عيد ميلادى"
*حبيبة بابتسامة:
"حقا؟! ، كل عام و أنت بخير"
*باسم بتردد:
"شكرا ، لقد أردت أن احتفل اليوم بعيد مولدى و أن اجعله يوما مميزا ، و لن يكون كذلك إلا بحضورك للاحتفال معى"
*حبيبة:
"حسنا سآتى الليلة"
*باسم بخبث:
"فى انتظارك من الآن"

-فتح باسم باب شقته ليجد حبيبة واقفة و بيدها هدية و تقول:
"كل عام و أنت بخير"
*باسم بابتسامة:
"تفضلى"
-دلفت حبيبة إلى الداخل بينما أغلق باسم الباب لتقول حبيبة بدهشة:
"أين البقية؟"
*باسم و هو يمد يده لها بكوب من العصير:
"فى الطريق ، اشربى العصير"
-تناولت حبيبة كوب العصير ثم سرعان ما انتقلت إلى عالم آخر بفعل ما بهذا الكوب من مادة مخدرة ، و هكذا استطاع باسم نيل مراده أخيرا بعد سلسلة من الاخدوعات و الحركات الماكرة للحصول عليها متبعا لكلمة (لا يفل الحديد إلا الحديد)

-فى الصباح؛ استيقظت حبيبة و هى تمسك برأسها بتعب قائلة بتألم:
"يا إلهى ماذا حدث؟"
-ثم سرعان ما اتضحت الرؤية أمامها بعد رؤيتها لهذا النائم بجانبها عارى الصدر لتطلق صرخة استيقظ الثانى بفزع على أثرها بينما وقفت حبيبة عن الفراش قائلة ببكاء:
"ماذا حدث؟"
-أراح باسم ظهره إلى الوراء قائلا:
"حدث ما أردته أن يحدث آنسة حبيبة"
*حبيبة بصدمة:
"أتعنى انك قمت بكل ما سبق من اهتمام و حب زائفين لتحصل على يا حقير؟"
-اومأ باسم بابتسامة خبيثة ظهرت على شفتيه لتصرخ حبيية:
"أيها الحقير الغبى ، كيف تفعل هذا؟ ، أقسم لك سأريك عاقبة ما فعلت"
-وقف باسم ثم أطبق على ذراعيها قائلا:
"ماذا ستفعلين يا ابنة الأبنودي؟ ، هل ستوصلينى إلى الشرطة و تفضحين سمعتك و سمعة والدك؟"
*حبيبة بغضب مكتوم:
"ليست فكرة سيئة"
-ثم و بسرعة أمسكت بالمزهرية بجانبها ثم صدمتها بقوة على رأسه ليقع أرضا غارقا بدمائه السائلة ، نظرت إليه حبيبة باشمئزاز ثم ارتدت ملابسها و خرجت بسرعة من الشقة بعد ان لحظها الحراس..

-فى فيلا سامح الأبنودي؛ دق جرس الباب لتفتح الخادمة فتدخل حبيبة سريعا دون أخذ الإذن ليعترضها أخوها عبدالرحمن قائلا بغضب: 
"ماذا تفعلين هنا يا حبيبة؟ ، هيا اخرجى من هنا"
-ثم لحقه صوت سامح قائلا باستنكار:
"لم أتيت يا حبيبة؟ ، هل انقضت النقود التى أرسلتها أم ماذا؟"
*حبيبة بشر:
"على رسلك يا أبى ، ستعرف حالا ما سبب إتيانى إلى هنا"
-دق جرس الباب مجددا بعد كلمتها الأخيرة لتفتح الخادمة ثم تفاجأ بجمع من رجال الشرطة فى مقدمتهم ضابط يقول متسائلا:
"أين الآنسة حبيبة سامح الأبنودي؟"
*حبيبة مراقبة نظرات والدها بخبث:
"إنها أنا يا حضرة الضابط"
-أسرع إليه سامح قائلا بقلق:
"ما الأمر أيها الضابط؟"
*الضابط:
"لقد أصابت الشاب باسم محمد بالمزهرية مما تسبب بدخوله العناية و عدم استقرار حالته"

-مرت ثلاثة أيام و سامح و نوال يحاولان بقدر الإمكان إخراج ابنتهما من هذا المأزق الذى سيجعلهما يخسران المجد الذى حققاه طيلة سنوات بسبب فعلة طائشة منها ، و لكن لم تتم البراءة سوى بإخضاع حبيبة لكشف طبى أوضح ما تعرضت له من فقدان شرفها ، و أن ما قامت به كان دفاع عن النفس فقط
-بعد أن حصلا على براءة حبيبة المغيبة اصطحباها إلى شقتها التى ترعرعت فيها ، هذه الشقة التى لم يأتيا فيها سوى مرة
أو مرتين بعد الانفصال ، دلفت حبيبة إلى الشقة و خلفها سامح و نوال التى قالت بغضب:
"كيف تفعلين هذا يا حبيبة؟ ، لقد وضعت شرفى على المحك بسبب فعلتك هذه"
-ظلت حبيبة صامتة بينما قال سامح بحنق:
"لن تقدر هذه معنى ما تقولين ، فكل ما يهمها تحقيق النزوات فقط"
*حبيبة بغضب مكتوم:
"و ماذا تعرف انت عنى كى تقول أن هدفى هو النزوات فقط؟ ، و لو كان هذا هو هدفى كما تقول ، فلم لم تشرف على تربيتى كى أصبح صالحة كأبنائك الصالحين يا سيد أبنودي؟"
-أمسكت نوال بذراعها ثم قالت و هى تكز على أسنانها بغيظ:
"تحدثى بشكل جيد يا عديمة الرباية ، ألا يكفيك ما قمت به اليوم من تشويه لسمعتنا؟"
-أطلقت حبيبة صرخة قوية ثم قالت:
"يكفى ، ليس لك الحق بقول كلمة واحدة بحقى ، فى الواقع ليس لكليكما الحق بهذا ، لقد ترعرعت هنا فى هذه الشقة ذات الطابقين تحت رعاية جدتى ، هذه الطاهرة من قامت بتربيتى و إحضار السعادة لأجلى ، لقد خطوت أولى خطواتى تحت ناظريها و بمساعدتها ، كانت تستذكر لى دروسى و تسعد لنجاحى و تساعدنى لو تعرقلت خطواتى ، فى الواقع لقد قامت بكل واجباتكما الأبوية ، و بعد رحيلها فقدت دعامتى التى كنت أتحرك بها و أصبحت كائنا رخوا تحركه مجارى التيار أينما تريد ، و  الأسوأ أنها رحلت و لم تجبنى عن أى من أسئلتى التى ستجيبان عنها الآن"
-ثم نظرت إليهما بنظرات ثاقبة مكملة بغل:
"ترى لماذا تركتمانى أكمل حياتى إن كان بغضكما لبعضكما يصل لدرجة إلقائى فى نهر النسيان هكذا؟ ، بم يتميز كل من محمد و عبدالرحمن و شهد عنى؟ ، ألست ابنتكما أيضا؟"
-هم سامح ليتحدث و لكن أوقفته حبيبة بإشارة من يدها قائلة:
"و بعد ما ذكرت بعضا من الأسئلة الكثيرة التى تشكل تحد بالنسبة لى و تصنع صرخات عالية صم قلبى من قوتها ، تتوقعان ان يزال رأسكما مرفوعا؟! ، لقد انتقمت من كل من أذانى فى هذه الحياة ، أولا شبيه الرجل هذا الذى أصبته بالصمم الدائم بسبب ما اقترف من جرم بحقى ، و أنتما يكفيكما السمعة المشوهة التى أودت بالاحترام الذى بنيتماه لسنوات عديدة"
-ثم أردفت بصراخ عال:
"لذا اخرجا من هنا و انسيا أمر العتاب ، فهذا ليس وقت العتاب ، هذا ليس وقت العتاب ، هذا ليس...."

-خرجت عبرة حبيسة من عين حبيبة و لكنها أزالتها بسرعة قبل ان تقول السيدة:
"عمل رائع يا حبيبة ، أرأيت ان السمك طعمه لذيذ جدا؟!"
-أومأت حبيبة برأسها مع ابتسامة هادئة لتقول السيدة:
"سأتحدث مع الطبيب لتخرج معنا ممرضة إلى الحديقة اليوم ما رأيك؟"
-هزت حبيبة رأسها إيجابا مع ابتسامة كبيرة لتقف السيدة ثم تستدعى الممرضة بينما شردت حبيبة قائلة فى نفسها:
"و بعد هذه الصرخة المدوية التى خرجت أخيرا بعد طول صمت ، خرج معها صوتى و أصبحت لا أستطيع الكلام ، و أتيت إلى مركز إعادة التأهيل النفسى لينسانى أهلى كعادتهما و أعتقد أن هذه النهاية ، و لكن كانت لله خطط أخرى ، فلقد قابلت السيدة ريحانة التى جاءت إلى هنا إثر تعرضها لصدمة نفسية بعد وفاة ابنتها ، و كانت لا تنفك تحاول الانتحار حتى ظهرت بحياتها لأصير ابنتها و تصير هى والداى الفقيدان ، فلقد كانت مصدر قوتى ، تمثلت فيها روح جدتى ، فهى لدائى كدوائى ، و هى مسكن لأوجاعى ، و هى البسمة على شفتى ، و هى المسكن لقلبى ، و هذا أول عوض من الله ، و على ثقة تامة بإتيان المزيد ، فلن أنسى قول جدتى رحمها الله مع كل ضيق
((فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا))
                                           تمت بحمد الله
#مجلة_الشفق

إرسال تعليق

0 تعليقات