ديلارا
قصة قصيرة
بقلم منال سالم
مجلة الشفق
لتحميل الرواية اضغط هنا
المقدمة
اعتدلت في جلستها على المقعد بالطائرة العائدة بها إلى أرض الوطن، لقد انتهت من دراستها وحان وقت العودة إلى منزل العائلة الكبير، أدارت "ديلارا" رأسها نحو نافذة الطائرة لتحدق في تلك الغمائم التي تغلف جناحها الأيسر، تنهدت مطولاً وهي تمني نفسها بقضاء وقت طيب مع أقربائها الذين اشتاقت لهم؛ خاصة والديها الحبيبين، قاومت رغبة ملحة في الاستسلام لتستمع بلحظاتها الأخيرة وهي محلقة في السماء الملبدة بالغيوم، أمسكت بعد ذلك بهاتفها المحمول تتطلع إلى الصور الفوتوغرافية التي التقطتها مؤخرًا وهي تبتسم، احتوت الصور على أهم اللقطات المميزة التي جمعتها مع رفيقاتها ورفاقها في الجامعة، تمنت لو تضمنت تلك الألبومات صورًا تجمعها مع حبيب يعشقها حد الجنون يقود مشاعرها إلى مناطق لم تطأها من قبل، هي قرأت عن الحب من أول نظرة، وحلمت أن تعيشه مع من يغرقها في بحوره العميقة، رسمت "ديلارا" في خيالها صورة لفارسها المنتظر جسدت فيها مواصفاته الجسمانية وسماته الرجولية، خرجت من تفكيرها الحالم على صوت المضيفة الصادح عبر المذياع الداخلي:
-برجاء غلق الهواتف والتزام الأماكن وربط الأحزمة لقرب الوصول إلى المطار.
تهدل كتفيها بتعب وقامت بتنفيذ ذلك بهدوء واضح عليها، نفضت "ديلارا" خصلات شعرها المنساب على جبينها للخلف، واستندت بكفها على طرف ذقنها حتى أحست بتلك الرجة الخافتة، تشبثت جيدًا بالمقعد حابسة أنفاسها بترقب وهي تشعر ببدن الطائرة يهبط على المدرج المصمم للإقلاع والهبوط، أغمضت جفنيها متذكرة ما كانت تشعر به من خوف ممزوج بالأدرينالين المتحمس وهي تلهو مع رفاقها في الملاهي، تنفست الصعداء مع تلامس عجلاتها للأرضية الإسفلتية لتشعر بتلك الاهتزازات المتتالية حتى هدأت وبدأت حركتها تخبو لتتوقف بعدها الطائرة وتستعد هي لمغادرتها.
استقبلتها عائلتها بترحاب ودود، فالجميع يعشق تلك الفتاة العشرينية المجتهدة، لا تختلف ملامح وجهها عن والدتها "بُشرى"، هي تمتلك نفس زوج الأعين العسلية والشعر الذهبي، بالإضافة إلى بشرتها البيضاء، كما اكتسبت من والدها "ماهر" سماته الشخصية كعزة النفس والكبرياء، ركضت نحوها ابنة عمها الوحيدة "جوانا" تحتضنها هاتفة بتلهفٍ:
-افتقدتك كثيرًا
ردت عليها "ديلارا" بابتسامة صغيرة:
-وأنا أيضًا
أخرجت من صدرها تنهيدة عميقة تحوي مشاعرًا كثيرة، تلفتت حولها تتأمل المكان بنظرات متفحصة وهي تكمل حديثها:
-كم أشتاق لكل شيء هنا، افتقدتُ الدفء والهدوء
ردت عليها "جوانا" بعبثٍ:
-لا تتوقعي أن أكف عن مضايقتك، سنلهو كثيرًا، فأنا أجيد الخروج والسهر
ضحكت "ديلارا" قائلة بتأكيد وهي تغمز لها:
-بالطبع، فأنتِ خير مثال على ذلك
صاحت بهما "بشرى" وهي تلوح بيدها من نافذة السيارة:
-هيا يا صغيرات، لنتحرك، لن نبقى هنا طوال اليوم
عبست "ديلارا" بوجهها قائلة بتذمرٍ مبرر:
-أمي! لم أعد كذلك، لقد تخرجت وعما قريب سأعمل و....
قاطعتها بإصرار دون أن تختفي ابتسامتها الصافية عن ثغرها:
-بل ستظلِ هكذا حتى لو صار لديكِ عشرات الأطفال
كركرت ضاحكة وهي ترد مستسلمة أمام أمومتها الزائدة:
-حسنًا يا أمي!
تأبطت "جوانا" في ذراعها، ثم مالت عليها لتهمس لها في أذنها بلؤم عابث:
-حاولي أن ترتاحي اليوم لأن غدًا سنحتفل بكِ ولكن بطريقة خاصة!
نظرت لها ابنة عمها بارتياب محاولة تفسير ما قالته، لكن ظلت الأخيرة محافظة على ذلك الغموض الذي غلف حديثها، فكما باحت لها فإن الغد سيحمل في طياته الكثير من المفاجآت.
الفصل الأول
انتزعت الستائر نزعًا لتتسلل أشعة الشمس القوية إلى غرفتها بعد أن تجاوز الوقت فترة الظهيرة بكثير، قضت "ديلارا" – منذ أن عادت لفيلا العائلة - أغلب وقتها نائمة تحاول استعادة تلك الحيوية التي افتقدها جسدها مؤخرًا، لم تتحمل "جوانا" كسلها الزائد عن الحد فعمدت إلى إفاقتها بنفسها، قفزت على فراشها تسحب الغطاء عنها وهي تصيح بها بنبرة عالية مليئة بالحماس:
-هيا، استيقظي!
جذبت "ديلارا" طرفه بيدها لتغطي وجهها محاولة إكمال نومها رغم استحالة حدوث ذلك بسبب وجودها، لم تسلم منها فهمست بصوتها الناعس مرددة بتذمر علها تتركها وشأنها:
-ليس الآن
ردت عليه بعبوس وقد انزوى ما بين حاجبيها:
-"ديلارا"، أنتِ سخيفة حقًا، وأنا التي نويت اصطحابك إلى أحد حفلات رفاقي
نفخت الأخيرة قائلة بضيقٍ:
-لا أريد
استمرت في جذب الغطاء عنها هاتفة بإلحاحٍ:
-هيا، قضيتِ يومان في الفراش، كفا كسلاً
-دعيني لشأني
-لن يحدث، عمي "ماهر" طلب مني أن ألازمك، هيا سنبدأ بالاستعداد للحفل
فغرت شفتيها مرددة باندهاش:
-الآن؟ مازال الوقت مبكرًا!
عبست ملامحها قائلة بجدية عجيبة:
-أتمنى أن يكفي فقط، هيا حبيبتي!
لم تستطع التملص منها، فاستسلمت أمام إصرارها العنيد لتنهض بتثاقل عن الفراش، توجهت ناحية المرحاض لتغتسل، في تلك الأثناء أحضرت "جوانا" ثوبًا جديدًا قد اشترته مع زوجة عمها خصيصًا لها لتحتفل بقدومها، وضعته على طرف الفراش وانتظرت بترقبٍ متلهف بجواره لترى ردة فعلها، خرجت "ديلارا" من المرحاض تجفف وجهها بالمنشفة، قطبت جبينها متسائلة باستغراب وقد تجمدت أعينها على ذلك الثوب الموضوع في كيس بلاستيكي مغلف:
-ما هذا؟
غمزت لها قائلة بعبثٍ مرح:
-خمني
اقتربت من الفراش تاركة المنشفة بإهمال على المقعد المجاور له، انحنت تتفحص ما بداخله، تجهمت تعبيرات وجهها للغاية، وتحولت نظراتها للاستياء بعد أن لمحت طرفه، لم تكن بحاجة للكشف عنه كليًا لتعرف ماهيته، إنه ثوب يليق بالحفلات المسائية، لونه أحمر ناري يكاد يصيب من يراه على أنثى بالجنون، بالطبع كان يحتاج لجسد مثالي ليبرز من ترتديه كـ "فينوس"، وهي لا تحبذ تلك النوعية من الثياب، زمت شفتيها قائلة بامتعاضٍ:
-لا تقولي، إنه أحد تلك الأثواب القصيرة التي ....
قاطعتها "جوانا" وهي تضع يدها على كتفها بهدوء مختلط بابتسامة شقية تتراقص مع نظرات عينيها:
-ليس هكذا بالضبط
كتفت "ديلارا" ساعديها مرددة باعتراض واضح:
-تعلمين أني أكره أن أرتدي ثيابًا كتلك، أبدو بشعة للغاية فيهم، لن أضعه عليّ، انسي حدوث ذلك!
مدت "جوانا" يدها لتضعها على كفها المعقود بساعدها ضاغطة عليه برفق، هتفت مؤكدة لها بثقة:
-لا تقلقي، إنها حفلة تنكرية، لن يتعرف إليكِ أحد!
نظرت لها نظرة حادة وهي تسألها بضيق:
-هل تحاولين إقناعي؟
-"ديلارا"، أنا أريدك أن تقضي وقتًا طيبًا، أن تنسي إرهاق الدراسة وغيره
-لا أريد
-إنها حفلة عادية، سنقضي فيها فقط وقتًا طيبًا، نمرح قليلاً، سأعرفك أيضًا على رفاقي، وإن مللت سنرحل فورًا، فما رأيك؟
ركزت نظراتها عليها وهي تسألها بجدية:
-لن أهرب منك، صحيح؟
اتسعت ابتسامتها محركة رأسها بالإيجاب لتقول لها بثقة:
-نعم! ولا تقلقي، أحضرتُ الأقنعة، فلن يتعرف إليكِ أحد
أخرجت زفيرًا محبطًا من صدرها مرددة باستسلام بائس:
-حسنًا، سأذهب لأجلكِ فقط
احتضنتها دون أي مقدمات قائلة بها بودٍ:
-أحبكِ كثيرًا
*****
ارتجف بدنها وهي تنظر إلى انعكاس هيئتها في المرآة بعد أن ارتدت ذلك الثوب المغري، لم تتخيل "ديلارا" أن تبدو هكذا بكل ذلك الإغراء، حتى وقت قريب كانت تبدو كفتاة عادية، لا تحمل من مقومات الجمال إلا المشترك مع الكثيرات، لكنها الآن تنافس أكثرهن جمالاً وإغراءً، وضعت "جوانا" يدها على فمها لتكتم شهقة مصدومة وهي تلج إلى غرفتها لتتفقدها، مررت أنظارها ببطء على جسدها المنحوت فيه بطريقة مثيرة للغاية قائلة لها بإعجابٍ:
-حتمًا ستفتنين أحدهم الليلة
عضت "ديلارا" على شفتها السفلى بخجلٍ تسرب أيضًا إلى حمرة وجنتيها، التفتت ناحيتها قائلة بارتباك:
-ليس لتلك الدرجة!
وقفت خلفها واضعة يديها على كتفيها قائلة بتأكيد:
-بلي ستفعلين!
صمتت لثانية قبل أن تضيف:
-لكن ينقصك شيء أخير
سألتها مهتمة:
-ما هو؟
تحركت من خلفها لتقف بجوارها، أحنت جسدها قليلاً لتلتقط ذلك الشيء الفضي الموضوع على الجانب، التفتت نحوها قائلة:
-أحمر الشفاه
تراجعت "ديلارا" خطوة للخلف مرددة برفض حرج:
-لا
أصرت قائلة بلهجة صارمة:
-لا مجال للرفض، ستضعين القليل منه، هيا!
أمسكت بها من ذراعها لتجذبها برفق إليها لتكمل رسم تلك اللوحة الفنية المغرية بوضع اللمسات الناعمة من مساحيق التجميل ليزداد وجهها توردًا وإشراقًا.
*****
خفق قلبها بقوة وهي تترجل من السيارة التي أقلتهم إلى ذلك القصر المهيب، شعرت برجفة باردة تصيب جسدها بالقشعريرة عندما وطأته بقدميها، لم تشعر بالارتياح لتلك النوعية من الحفلات الغريبة عنها، لكن أجبرت نفسها على الاعتياد مؤقتًا عليها ريثما يمر الوقت وتعود إلى الفيلا، تأكدت "ديلارا" من وجود القناع على وجهها رغم أنه لا يخفي إلا جزءًا قليلاً منه متضمنًا عينيها المتلألئتين بوميض آسر، ألقت نظرة خاطفة على الحدائق الغناء المزدانة بالإضاءات البسيطة التي أضفت سحرًا عجيبًا على المكان، بالطبع كان صوت الموسيقى الصاخب مرتفع في الأجواء، شعرت بقبضة يد "جوانا" على ذراعها فحركت رأسها في اتجاهها، هتفت الأخيرة بحماس علها تشجعها على تجاوز حاجز الخوف الوهمي الموجود بداخلها:
-سيبدأ المرح بالداخل
اكتفت بالابتسام لها، وظلت تتنفس بعمق لتضبط انفعالاتها المتوترة، تأهبت كليًا مع مرورها بأول مجموعة من الحضور الذين تعالت ضحكاتهم لتخبو فجأة مع تخطيها لهم، شعرت بأنظارهم تخترق جسدها من الخلف، بل ربما تفتك به إن صح التعبير، ابتلعت ريقها وواصلت السير بحذرٍ كي لا تتعثر في طرف ثوبها من فرط الارتباك، تركتها "جوانا" عند البهو قائلة بغموض:
-سأعود
تفاجأت بما فعلته فحاولت منعها هامسة بقلق ظهر في نبرتها:
-"جوانا"، لا تفعلي!
ردت عليها بابتسامة متسعة:
-تجولي في المكان، سأجدك، لا تقلقي!
-ولكن...
ابتلعت باقي جملتها في جوفها مجبرة بسبب ابتعاد الأخيرة عنها لمسافة لم تتمكن فيها من سماعها، بالإضافة إلى ارتفاع أصوات الموسيقى، تصنعت الجمود وهي تعمد إلى إخفاء توترها، كزت على أسنانها هامسة في نفسها بضيق:
-لقد أوقعتِ بي
تلفتت حولها متابعة بحرج وهي تبدو كالغريبة في عالم لا تعرف عنه إلا القليل:
-لن أمررها لكِ!
قامت "ديلارا" بالتجول في البهو متأملة أوجه الضيوف الذين كانوا متأنقين في أبهى صورهم، ورغم كونها حفلة تنكرية إلا أن الأغلب تسابق فيها لإظهار أناقته وثرائه، بحثت عن بقعة هادئة لتبتعد عن نظرات المحدقين بها التي كانت تفترسها باشتهاء واضح، ندمت في نفسها لإطاعتها لابنة عمها والموافقة على ارتداء ذلك الثوب، فإن رفضت من البداية لتجنبت أعينهم الجائعة، قادتها قدماها إلى الحديقة الخلفية المجاورة للمسبح، تنفست بارتياح لكونها قد نأت بنفسها عن أعينهم الشيطانية المتعطشة لنهش لحمها، اقتربت من أحد أحواض الزهور متأملة عن كثب ما به من ورود جميلة تزينه، لكنها لم تعرف ما الذي ينتظرها هناك.
الفصل الثاني
ظلت أنظاره تبحث عنها، عشيقته التي التصقت به مؤخرًا ليختبر معها مشاعره الرجولية، لم ينكر أنه تمتع معها كثيرًا، لكنه كان يتوقع أن يسقط قناعها الزائف وتنكشف حقيقتها، فمثيلاتها تجري وراء المشاهير وأصحاب الأموال الطائلة لتطلب المزيد في لحظة ما حرجة، مما يدفعه للرضوخ أمامها، ورغم ذلك لم يكن من تلك النوعية، أسند "عاصي" كأسه الذي فرغ من ارتشاف ما به في جرعة واحدة على الطاولة المجاورة له، ثم لوح بيده لأحد رفاقه الذي اقترب منه متسائلاً باستغراب:
-لماذا لا تضع قناعك؟
أجابه بوجه ممتقع وهو يشير بيده للنادل ليأتي له بكأس أخر:
-لا أريد
تعجب "وليد" من حالة الفتور المسيطرة على رفيقه مرددًا:
-"عاصى"، إنها حفلتك، أنت من دعوت لتنظيمها!
رد عليه بعدم اكتراث لما دفعه من مبلغ كبير لتخرج بذلك الشكل المبهج:
-حفلة سخيفة، لا أرى أي داعٍ منها
-لكنك...
قاطعه بجدية وقد قست تعبيراته:
-لم يكن اقتراحي، إنه طلب "كنده"، رغبت في القليل من المرح
غمز له "وليد" هامسًا بنبرة ذات مغزى:
-الفاتنة اللعوب!
مط فمه ليبدي انزعاجه، ثم تحدث من زاويته قائلاً:
-إنها هي، تجيد إجباري على تنفيذ رغباتها
سأله باستغراب:
-ولماذا قبلت إذًا؟
رد "عاصي" باقتضاب وهو يدس في جوفه الشراب من جديد:
-لأتسلى مثلها
تفرس "وليد" في تعبيرات وجهه المتصلبة متابعًا حديثه:
-لكني أجدك بائسًا، اعذرني لصراحتي!
رد موضحًا بزفير مسموع:
-لأن تلك المخادعة لم تظهر بعد، هي تتعمد اتلاف أعصابي قبل أن أراها
لكزه في جانب ذراعه غامزًا له:
-هي تجيد التلاعب بك
تقوس فمه بابتسامة باهتة وهو يرد:
-نعم، لن أنكر أنها بارعة في ذلك!
ثم كركر ضاحكًا ناعتًا إياه بمكرٍ:
-"كنده" صائدة الرجال
وافقه رفيقه الرأي، تلفت حوله مضيفًا بهدوءٍ:
-ربما هي موجودة ولكنها تختبأ منك
رد عليه "عاصي" بنبرة عازمة وهو يستعد للسير:
-سأبحث عنها
أوقفه "وليد" قبل أن يتحرك متسائلاً:
-أتعرف ما الذي سترتديه؟ فالكل يرتدي أقنعة هنا و...
قاطعه غامزًا بلؤمٍ:
-ثوبًا أحمر اللون، لقد أعطتني تلميحًا ووعدتني بمفاجأة أخرى لم تفصح عنها
لم يستطع رفيقه إخفاء ضحكة ماجنة خرجت من جوفه وهو يرد بتلميح صريح:
-حتمًا إنها ماهرة معك!
صحح له مقصده متمتمًا بغرور واثق:
-بل أنا الأمهر يا صديقي، لا تنسى من أنا!
غمز له بطرف عينه قبل أن يناوله كأسه الفارغ ليتحرك باحثًا عنها بين ضيوفه الذين لم يدعوا أغلبهم، التقى في طريقه بـ "جوانا" التي استقبلته مهللة بابتسامة مشرقة:
-أوه، سيد "عاصي"! دومًا تفاجئنا بحفلات تتحدث عنها الصحف لأيامٍ
مد يده ليداعب وجنتها قائلاً بغطرسة:
-لأني لا أقبل إلا بالأفضل
مطت شفتيها المكتنزتين مرددة بإعجاب بائن في عينيها:
-بالطبع
سألها مهتمًا وهو ينتصب في وقفته ليدس بعدها يديه في جيبي سرواله الأسود:
-هل أتيتِ بمفردك أم بصحبة أحد من العائلة؟
أجابته بهدوء وهي تتلفت برأسها:
-لا، بل مع .....
قاطعها النادل متسائلاً بنبرة عملية:
-سيد "عاصي" هل أحضر لك شرابك؟
رفع يده مشيرًا بصلابة:
-لا، قدم للآنسة واحدًا
ابتسمت له بلطف معتذرة منه:
-شكرًا لك "عاصي"، لقد شربت الكثير، سأذهب للبحث عن قريبتي
أشار لها براحة يده قائلاً بابتسامة لطيفة لكنها جادة:
-تفضلي
راقبها بأعينه وهي تسير بخطوات متهادية حتى اختفت عن أنظاره، استدار بجسده نحو المسبح ليسير بجواره متوقعًا وجود عشيقته هناك، لم يجدها في البداية فأكمل بحثه بملل، لمح إحداهن توليه ظهرها تنطبق عليها مواصفاتها من بعيد، ثبت حدقتاه على جسدها وهو يدنو منعها، تسلل إليه إحساسًا غريبًا لم يفهمه وهو يجوب بنظراته الدقيقة على تفاصيلها التي أثارت فيه شيء ما، وقف على مسافة جيدة منها يتأملها باهتمام، خاصة وأن الإضاءة الخافتة قد منحتها هالة سحرية تأسر الأعين نحوها، كانت مختلفة عن أي مرة وعدته فيها أن تبهره وتجعله يزداد رغبة فيها، ابتلع لعابه الذي سال مقتربًا أكثر منها.
كانت "ديلارا" تداعب وجنتها بأوراق وردة حمراء صغيرة اقتطفتها لتشعر بملمسها الناعم على بشرتها، أغمضت عينيها مستسلمة لذلك الإحساس المغري بالهدوء الممزوج بنغمات موسيقية ساحرة، انتفض جسدها مع تلك اللمسة الغريبة التي حاوطت خصرها فجأة، فتحت عينيها مصدومة، تخشب جسدها وتصلبت كليًا وهي تتراجع مبتعدة عمن تجرأ ووضع يده على جسدها بوقاحة غير متناهية، للحظة صدمت من تعبيرات وجهه التي طابقت تلك الصورة الخيالية التي رسمتها له، هوى قلبها في قدميها باندهاش غير مسبوق، استعادت زمام أمورها قبل أن تنفلت منها، انتصبت "ديلارا" في وقفتها، كما قست نظراتها نحوه، هو لم يبعد أعينه التي تلتهمها بشراهة عنها، هتفت بحدةٍ تنهره عن اقتحامه لخلوتها الاختيارية واستباحته لما ليس له:
-أجننت؟
رفع حاجبه للأعلى متعجبًا ردة فعلها الغريبة، اقترب خطوة منها فتراجعت مرتدة للخلف، سألها بجمود:
-ماذا بكِ؟
اهتزت نبرتها وهي ترد متسائلة:
-من أنت؟
رد على سؤالها المريب مستفهمًا:
-أهي حيلة جديدة منك؟
شردت من جديد للحظة في ملامحه، أيعقل أن يكون التطابق بين الخيال والواقع لتلك الدرجة المخيفة؟ لم تنتبه لخطوته التالية نحوها، لف ذراعه حول خصرها ليضمها إليه وهو يقول:
-حسنًا لقد أثرتِ إعجابي حقًا تلك المرة بشكلك المثير
شهقت بتوترٍ من حركته الجريئة معها، واستندت بكفيها على صدره تدفعه عنها رافضة أن يلتصق جسدها به، صاحت تحذره:
-إياك أن ....
باغتها بانقضاضه على شفتيها يقبلها برغبة جامحة متأججة بداخله مانعًا إياها من التفوه بالمزيد من الحديث الذي لا يجدي نفعًا في مثل تلك المواقف الخطيرة، انحبست أنفاسها مع تعميقه لقبلته القوية والحسية تلك، تذوق مع قبلتها تلك طعمًا مختلفًا، لم يكن مثل كل مرة، قاومته "ديلارا" قدر استطاعتها لكنها في لحظة هوجاء استسلمت له ولخيالها الذي رسم ذلك المشهد عشرات المرات عبر صفحات الروايات المختلفة، بادلته نفس القبلة الحسية، لم يحررها "عاصي" إلا عندما انتهى منها، ابتعدت هامسًا لها بحرارة:
-هيا لنرقص سويًا
لهثت بخوفٍ ممزوج بالصدمة، أيعقل أن تكون أقدمت على ذلك بملء إرادتها، نبذت رعونة تفكيرها، ثم شحذت قواها لتصفعه بقوة على صدغه قبل أن تنجح في التملص منه متحركة للخلف وهي تصرخ فيه بعصبيةٍ:
-أيها الحقير، ابتعد عني!
تفاجأ من صفعتها التي لم يتوقعها أبدًا، فعشيقته "كنده" تحب طريقته في اقتناص الحب عنوة منها، خاصة حينما يلتهم شفتيها ويبث لها أشواقًا تلهب حواسها وتحفزها لطلب المزيد، صدم مما فعلته، فقد تجاوبت معه باستمتاع قبل لحظات، صاح بغضبٍ ظهر في نظراته المحتقنة نحوها وكذلك صوته:
-"كنده"، أتجرؤين؟
اضطرت "ديلارا" أن تنزع القناع الذي يخفي وجهها عنه لتنظر له بنفور مستنكرة وقاحته معها، رمقته بنظراتٍ عدائية وهي ترد منفعلة:
-أنا لا أعرفك
فغر فمه مدهوشًا من وجهها الذي لا يألفه، هو أخطأ حتمًا، هي ليست كما ظن عشيقته، بل واحدة أخرى تصرفت بتلقائية حينما قبلها هكذا بعنف، بالطبع كانت ردة فعلها طبيعية معه لكونه غريبًا عنها، لكن ما أثار ريبته هو تجاوبها معه، وإحساسها الذي وصله ولامس أعماق فؤاده، احتدت نظراته وقست إلى حد ما وهو يسألها بصوته المتشنج:
-من أنتِ؟
واصلت تراجعها عنه وهي تعنفه بعصبية:
-سأشكو عليك أصحاب الحفل
أولته ظهرها لتشرع في التحرك صوب المسبح لكنه قبض على رسغها ليوقفها عنوة، خفق قلبها بقوة من إمساكه بها، شعرت بدقاتها تتسابق في صدرها، أدارها "عاصي" ناحيته ليغدو قبالتها، جمد أعينه على عينيها الخائفتين، توترت أنفاسها وتسارعت نبضات قلبها بقلقٍ ممزوج بالخوف، لا تعرف ما الذي أصابها لتظل هكذا جامدة محدقة فقط فيه، ما حلمت به يومًا يتجسد أمامها، بل يقف على قدميه يواجهها ويحاورها، سد "عاصي" بجسده الطريق عليها معيدًا سؤاله بهدوء وهو يتأمل صفحة وجهها الجميل:
-من أنتِ؟
توترت من نبرته المتحكمة رغم هدوئها، خشيت أن تنساق وراء مجهول لا تعرف توابعه لمجرد حلم في خيالها تمنت أن تكون البطلة فيه، تذكرت أمرًا كانت تقرأ عنه دومًا لتبدد أحلامها الوردية تمامًا؛ إنه عن حالات الاعتداء خلال بعض الحفلات الخاصة، حيث يصرف الشباب فيها في تناول الشراب المُسكر وبالتالي تبعات ما يأتي بعد ذلك تكون وخيمة، خافت أن تكون هي الضحية التالية، أن يحاول النيل منها رغمًا عنها، وهي لن تستطيع منعه بمفردها، جف حلقها وشعرت بضربات قلبها المتلاحقة تصم آذانها، تلوت "ديلارا" بمعصمها لتتخلص منه وهي تقول بخوفٍ:
-اتركني!
لا يعرف ما الذي حثه لعدم تركها، ارتجافة شفتيها المغريتين كانت تحمسه لنيل عدد لا نهائي من القبلات، قاوم غريزته الجامحة مرددًا بإصرار عنيد ومعمقًا من نظراته نحوها:
-ليس قبل أن أعرف هويتك!
هنا قفز قلبها في قدميها متوقعة الأسوأ معه، تلاحقت أنفاسها وشحب لون بشرتها الطبيعي بخوف مضاعف، ظلت أنظارها المتوترة مسلطة على عينيه الحادتين اللاتين لم تكفا عن التحديق بها في دعوة خفية منهما للاستجابة للحظة جنون أخرى.
الفصل الثالث
بقيت أعينه الجامدة بوميضها الغامض مسلطًا عليها، لم يكترث بما يمكن أن تفعله، ربما ستصرخ، ستحدث جلبة وفضيحة، أو حتى تصفعه من جديد، لكنه أراد أن يظل هكذا ممتعًا أعينه بالتطلع إلى لون حدقتيها، هو بات أسيرًا لعينيها العسليتين غير قادر على إبعاد أنظاره عنها، على النقيض لم تشعر "ديلارا" بمثل تلك المشاعر المرتبكة التي عصفت بها مثل الآن، مزيج مقلق من الخوف والصدمة، لم يتجرأ أحد من قبل ويقبلها بمثل تلك الطريقة الجريئة ليظهر فيها مشاعرًا حلمت بها كثيرًا، بل لم تقبل مطلقًا بهذه الصورة، وهكذا فجأة دون سابق إنذار تعايش ما كانت تشاهده في الأفلام وتقرأ عنه في الروايات، والأخطر ما تمنته في أحلامها، أنجاها من مجهول لا تعرف عنه إلا القليل صوتًا أنثويًا ناعمًا تسلل إلى أذنيها لتفوق بعدها من الوهم الخيالي الذي حجب عقلها عن التفكير بطريقة عقلانية، تمكنت "ديلارا" من سحب يدها من قبضته عندما اضطر أن يرخي أصابعه عنها، لملمت شتات نفسها واستعادت السيطرة على حالها المرتبك، لم تفكر كثيرًا، حسمت أمرها سريعًا وأولته ظهرها لتفر راكضة من أمامه تاركة إياه مثلها في حالة تخبط واضحة، وضعت "كنده" يدها على كتف "عاصي" متسائلة بدلال:
-أين كنت حبيبي؟ بحثت عنك في كل مكان
وكأنها تحدث نفسها، فقد ظلت أنظاره معلقة على طيف المثيرة التي منحته شيئًا غريبًا في لحظة متهورة ليتغلغل في نفسه وبعمقٍ، ثم رحلت سالبة ذلك الإحساس معها، أخرجه من تحديقه الشارد بها نبرة "كنده" المتدللة عليه وهي تتابع متسائلة باستغراب:
-"عاصي"، أأنت معي؟
ابتسم لها الأخير ببسمة باهتة قائلاً باقتضاب:
-نعم
ركزت نظرها في نفس المكان الذي ينظر إليه متسائلة بفضولٍ:
-من تلك التي كانت معك؟
بهتت ملامحه وهو يرد بضيق قليل:
-لا أعرف
شعر ببرود عجيب يجتاحه تجاه "كنده" التي تداعبه بطريقتها لتثير غرائزه، لم يتجاوب معها، ولم تقتنع هي بما قاله، وصلها إحساسه بالجفاء فتعابيره الواجمة أشارت إلى ذلك بوضوح، حثها حدسها الأنثوي على متابعة أسئلتها، فأكملت بحذرٍ:
-أهي ضلت الطريق و... ؟!
قاطعها بحدة بعد أن مل من أسئلتها المتلاحقة:
-"كنده"، كفا!
عمدت سريعًا إلى تغيير طريقتها، تعلقت في عنقه بذراعيه متلمسة بشفتيها صدغه طابعة قبلة مغرية عليه، لم يتحمل ذلك، شعر بنفور عجيب منها، وضع يديه على ذراعيها يبعدهما عنه قائلاً بجدية:
-لقد طرأ أمر ما، اعذريني
انفرجت شفتاها مصدومة من جفائها المريب معها، سألته بتوجس:
-أين ستذهب؟
تحرك مبتعدًا نحو المسبح وهو يجيبها:
-سنتحدث لاحقًا
قبضت على ذراعه هاتفة بانفعال:
-لا "عاصي"، انتظر
رد بقسوة لم تعهدها منه:
-"كنده"، إياكِ
أبعدت قبضتها مصدومة، ارتفع حاجباها للأعلى باستنكار جلي، لقد بذلت مجهودًا كبيرًا لتستحوذ على اهتمامه وتكون ملكته، لكنه بكل بساطة تجاهلها وكأنها نكرة، انزعجت كثيرًا من تصرفه الفظ خاصة بعد أن تركها بمفردها لتكمل باقي الحفل الذي أقامته على شرفه لوحدها معلنًا بصورة غير رسمية انفصاله عنها لتمنح بذلك فرصة ذهبية للحاقدين عليها لتبادل الأقاويل والشائعات.
*****
تورمت شفتيها بمسحها العنيف لهما بالمنشفة الورقية لما ظنت أنه بقايا أثار قبلته عليهما، لم تعبأ بإفساد أحمر الشفاه، ولا بجرحهما، المهم بالنسبة لها أن تتخلص من ذلك الإحساس الذي اختبرته في لحظة جامحة معه، لامت نفسها لموافقتها من البداية على الذهاب لحفلة لا تعرف من فيها إرضاءً لابنة عمها، وعنفت نفسها أكثر لاستسلامها في لحظة للتمتع بقوة قبلته، توجهت "ديلارا" إلى الجراح الملحق بالقصر مشيرة للسائق الخاص بها لينقلها إلى المنزل، نسيت في خضم ما مرت به أن تخبر "جوانا" بذلك، كل ما شغل تفكيرها هو الهروب ونسيان تلك التجربة بكل ما فيها، سألها السائق مستفهمًا وهو يتطلع إلى وجهها من المرآة المجاورة له:
-هل أنتِ بخير، آنستي؟
ظلت صامتة فتجمدت أعينه على تعبيراتها الشاردة، خشي أن يكون أصابها مكروه ما، عاود سؤالها باهتمام أكبر:
-آنستي ...
انتبهت لصوته ولنظراته نحوها، ابتلعت ريقها هامسة بارتباك:
-نعم
تصنعت الابتسام وهي تضيف:
-لقد مللت ذلك الصخب
حافظ على نبرته الهادئة وهو يسألها:
-لم تأتِ معنا الآنسة "جوانا، هل نعود لاصطحابها؟
هزت رأسها بالنفي وقد ارتجف صوتها:
-لا، دعنا نعود للمنزل
قطب جبينه متفرسًا ردة فعلها الخائفة، ومع ذلك لم يجادلها في طلبها، رد بنبرة عملية:
-حسنًا، كما تريدين!
تنفست الصعداء لعدم تدخله أكثر في شئونها، فوالدها لا يعده سائقهم فقط، بل هو حارسهم الشخصي إن تطلب الأمر تدخله، شعرت أنها كالكتاب المفتوح أمام الأخرين، يسهل كشف أمرها، عاودت الجلوس باسترخاء على المقعد لتغمض بعدها عينيها مقاومة ما يسربه عقلها من ذكرى تلك القبلة.
*****
دفنت نفسها تحت الغطاء في فراشها بغرفتها بعد أن عادت مبكرًا للفيلا، ادعت الإرهاق والتعب لتتجنب أسئلة والدتها عن عودتها الغريبة دون انتهاء الحفل، وما زاد من ارتيابها هو مجيئها بدون ابنة عمها، كانت "ديلارا" بحاجة للهروب حصارها، فمثلت جيدًا دورها، تركتها "بشرى" بعد أن اطمأنت عليها لتغدو من جديد أسيرة أفكارها، شعرت بالخزي من نفسها لكون ردة فعلها ضعيفة، ربما لأن فعلته الجريئة كانت غير متوقعة منذ البداية، حاولت تبرير موقفها، لكن زاد ذلك من تأنيب ضميرها، تقلبت على الفراش مقاومة رغبة عقلها في التفكير فيه ومعايشة ذلك الإحساس المغري من جديد، لم تشعر بمضي الوقت إلا عندما جاءت "جوانا" تعاتبها بضيق، ألقت الأخيرة بجسدها المتعب على الفراش لتجبرها على النهوض مرددة بسخطٍ:
-خائنة!
اعتدلت "ديلارا" في نومتها متسائلة بهدوءٍ حذر:
-ما الأمر؟
ردت متسائلة بمكرٍ:
-أتسألين ما الأمر وأنتِ تركتني وذهبتي هكذا مثل السندريلا؟
ارتعدت من احتمالية معرفتها بما صار فتعللت بتوتر:
-لقد .. مرضت فجأة
انتفضت الأخيرة في جلستها لتقترب منها، وضعت يدها على جبينها تتحسسه مرددة بتساؤلٍ:
-ماذا بكِ؟ هل أصابتك حمى ما؟
أجابتها بابتسامة صغيرة:
-لا لكني شعرت بمغص يضرب معدتي
تحسست وجنتها متابعة باهتمام مضاعف:
-"ديلارا"، أنتِ تبدين شاحبة
اتسعت ابتسامتها قليلاً مؤكدة بلطفٍ:
-صدقيني أنا أصبحت بخير
زفرت "جوانا" بصوت مسموع كتعبير عن ارتياحها، سحبت الغطاء عليها لتتمدد إلى جوارها متابعة بعبثٍ وهي تغمز لها:
-مممممم، فاتك الكثير من المرح في الحفل
-ماذا حدث؟
-الشمطاء اللعوب "كنده" تلقت مقلبًا من "عاصي"
قطبت جبينها متسائلة باستغراب:
-من هؤلاء؟
تعجبت "جوانا" من جهلها لهويتهما المعروفة مسبقًا بسبب فضائحهما المتداولة على المواقع والصحف ناهيك عن صداقته للعائلة، تابعت مضيفة:
-صاحب الحفل ورفيقته، بمعنى أدق عشيقته المدللة، الأخبار تتحدث دومًا عن علاقتهما
تفهمت "ديلارا" سبب اهتمامها بهما، فردت بتساؤل على الرغم من فتور نبرتها:
-ماذا حدث لها؟
-لقد هجرها فجأة دون أي مقدمات
-أتقصدين تركها؟
صححت لها قائلة:
-لا، هو هجرها، لا نعرف السبب بعد، لكن مع انتهاء الحفل دبت بينهما مشاجرة حادة انتهت بإعلانه انفصاله عنها
-لا تستهويني تلك التفاصيل
-دعك من ذلك كله، كنتِ أميرة الحفل
-كفا سخافة، لا أريد تذكرها مطلقًا
-لماذا؟ أحدث شيء لا أعرفه؟
ردت بارتباك جلي محاولة نفي الأمر تمامًا:
-لا، ولكني كما أخبرت أملُ سريعًا من تلك الحفلات الوقحة
-وقحة!
-لا تشغلي بالك بي، أنا شبه ناعسة، لا أعي ما أقوله
-حسنًا
ضغطت "ديلارا" على شفتيها متسائلة بتوترٍ وهي تفرك أصابعها معًا:
-"جوانا"، هل تؤمنين بالحب من أول نظرة؟
هزت كتفيها قائلة بنبرة غير مبالية:
-لا أعرف، لم أجربه من قبل
عادت لتسألها بعد أن شردت في وجه الغامض الجريء:
-هل يحدث دون مقدماتٍ؟ هل يجعل قلبك يقفز بين ضلوعه؟
نظرت لها "جوانا" بغرابة متفرسة تعبيراتها الغير طبيعية:
-ربما، ولكن لماذا تسألين؟
غيرت "ديلارا" نبرتها إلى الجدية وهي تجيبها:
-ليس لغرض معين
ابتسمت لها الأخيرة قائلة بتنهيدة وهي تنزل قدميها عن الفراش:
-حسنًا، سأذهب لأتناول شيئًا، فمعدتي تصفر
اتسعت ابتسامتها مرددة:
-كما تشائين
لوحت لها "جوانا" بيدها قائلة:
-أراكِ غدًا، تصبحين على خير
-وأنتِ كذلك
قالتها "ديلارا" وهي تنزلق بجسدها أسفل الغطاء محاولة استدعاء سلطان النوم لتغفو بعد أن أرهقها التفكير في صاحب التصرفات الجريئة ليعاود زيارتها في أحلامها مكررًا ذلك المشهد بكافة تفاصيله.
***
القصة القصيرة (ديلارا)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
الفصل الرابع
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
لم يكن مؤمنًا بما يسمى بالحب من أول نظرة حتى التقاها، لكن حدث الأمر معه وأصابه بالجنون، لأيامٍ متعاقبة ظل يبحث عن تلك الفتاة الغامضة التي أتت إلى حفله فجأة واختفت فجأة لتتركه في حيرة مزعجة، تحول الأمر معه بمرور الوقت وعجزه عن إيجادها إلى هوس مريب، فمنذ أن رأها "عاصي" في حديقة قصره الخلفية وهي لم تفارق تفكيره، تذوق معها مذاقًا جديدًا للحب من على شفتيها، نقلته لحظيًا إلى عالم جميل تضاعفت فيه المشاعر والأحاسيس، هي لم تكن كسابقاتها من الفتيات، شغلت باله حتى عجز عن متابعة أعماله بذهنٍ صاف، ولج إليه رفيقه "وليد" في غرفة مكتبه متسائلاً:
-لقد أطلت غيبتك وأهملت عملك
سحب المقعد ليجلس عليه واضعًا ساقه فوق الأخرى وهو يتابع باهتمام:
-لا تخبرني أن السبب في ذلك "كنده"
تقوس فم "عاصي" للجانب مرددًا بسخطٍ:
-ليس لتلك الدرجة، هي انتهت بالنسبة لي
زوى حاجبيه متسائلاً:
-إذًا أخبرني ماذا بك؟
سحب "عاصي" نفسًا مطولاً لفظه ببطء ليجيبه بعدها بامتعاض
-لا أعلم بالضبط، تلك الفتاة أحدثت في شيء ما
رغم عفوية حديثه إلا أنه أثار فضول رفيقه، أكمل متسائلاً بجدية:
-فتاة، عمن تتحدث؟
أجابه بمللٍ:
-عن صاحبة الثوب الأحمر
بدا الاهتمام واضحًا على تعبيرات وجه الأخير، شبك كفيه معًا ليسندهما على سطح المكتب، أشار بحاجبه مضيفًا:
-لقد فاتني الكثير، احكي لي يا صديقي
اعتدل في جلسته على المقعد مركزًا أنظاره عليه، أومأ برأسه قائلاً بجدية جلية:
-حسنًا، ربما ستتمكن من مساعدتي
سرد له بإيجاز لقائه القصير – و الذي امتلأ بالكثير - مع صاحبة الثوب الأحمر، تلك التي لم يكتشف هويتها بعد، وتعب من تحريه اليائس عنها بلا جدوى، تعجب رفيقه من اهتمامه الزائد بها متسائلاً بفضول:
-ولماذا هذا الاهتمام المفاجئ؟
أرجع "عاصي" ظهره للخلف قائلاً بضيق محبط:
-صدقني لا أعرف، لكني سأجن!
فرك طرف ذقنه متابعًا بتساؤل جاد:
-هل سألت عنها المتواجدين؟
عقد كفيه خلف رأسه مجيبًا إياه بفتورٍ:
-لم يرها أحد بعد صدامي معها
لوح له "وليد" بسبابته معاتبًا برفق:
-أنت من تسرعت بتقبيلها
رد مبررًا:
-اعتقدت في البداية أنها "كنده"
-بالمناسبة هي تدعي تركها لك، وتقول أنها ....
قاطعه غير مكترث:
-لا يهمني ما تقوله، هي صفحة وانطوت من حياتي
تنهد "عاصي" مرة أخرى ليقول بشرودٍ:
-السندريلا فقط من تشغل بالي
صمت ثقيل ساد بينهما للحظات حاول كلاهما فيه التفكير في وسيلة للوصول إلى أي معلومة تخصها، هتف فجأة "وليد" بنزق بعد أن طرأ بباله شيء ما:
-"عاصي"، هل تحريت الكاميرات الموجودة في قصرك؟
تأهب عقله بعد سؤاله المحفز لخلاياه مرددًا:
-ماذا؟
تابع موضحًا بنفس اللهجة الجادة:
-حتمًا ستكون إحداهم قد سجلت مجيئها مع أحد رفاقك، ربما بذلك سنكشف هويتها
تحول الوجوم الذي كسا ملامحه إلى حماس عجيب، هتف "عاصي" بإعجاب وهو ينهض عن مقعده مادحًا رفيقه:
-أنت حقًا عبقري، لماذا لم أفكر في ذلك الاقتراح من قبل؟!
رد "وليد" بغطرسة وغرور يستحقهما:
-بالطبع، لم أحصل على المركز الأول من فراغ!
غمز له مؤكدًا:
-سأكافئك إن وصلت إليها
-في انتظارك رفيقي!
عكف بعدها "عاصي" على مراجعة الأشرطة التي قامت الكاميرات بتسجيلها ليلة الحفل، كانت الصدمة عندما رأى "جوانا" مع نفس الفتاة تلجان إلى قصره متأبطتان ذراع بعضهما البعض، ضرب جبينه بقبضة يده يلوم نفسه على إضاعة وقته هكذا، مرر أصابعه بين خصلات شعره محدثًا نفسه:
-لقد وجدت أيتها الأميرة!
*****
كانت تمارس رياضة العدو في المضمار المخصص لذلك بالنادي حينما أتاها اتصالاً هاتفيًا، توقفت "جوانا" عن الركض لتلتقط أنفاسها ثم سحبت الهاتف من جيب سروالها الرياضي لتنظر إلى اسم المتصل، اعتلت الدهشة تعبيراتها وهي تقرأ بين شفتيها اسم "عاصي" يضيء عليه، فقلما اتصل بها، لم تدع الأمر يحيرها كثيرًا، أجابت على اتصاله متسائلة بنعومة:
-خيرًا يا سيد "عاصي"
جففت عرقها بمنشفة صغيرة كانت معها، أصغت إلى نبرته الهادئة وهو يقول بلؤم:
-"جوانا"، حلوتي، ألا يجوز الاتصال بكِ؟
ردت بابتسامة صغيرة:
-نعم، ولكن الأمر غريب، فأنا أعرفك جيدًا
تنحنح بخشونة ليقول بجدية:
-حسنًا لن أراوغ معك، أردت سؤالك عن شيء ما
أصبح وجهها خاليًا من التعبيرات وهي تتابع بترقب:
-تفضل
سألها دون إضاعة وقتٍ وبدون أي مقدماتٍ:
-أتذكرين الحفل التنكري الذي أقمته قبل فترة؟
اعتراها القليل من الدهشة وهي ترد على سؤاله بتساؤل حائر:
-نعم، ماذا به؟
أجابها بسؤال أكثر جدية محاولاً ألا تظهر نبرته المتلهفة لها:
-هل أتت بصحبتك فتاة ما ترتدي ثوبًا أحمر اللون؟
ردت بنزقٍ:
-أتقصد "ديلارا"؟
ردد باندهاش:
-اسمها "ديلارا"؟ أهي قريبتك؟
أجابته بدون أن تفكر مرتين:
-نعم، إنها ابنة عمي، على ما أذكر هي رحلت مبكرًا، هل حدث شيء ما يخصها؟
وكأن جميع الأحجية قد حلت مرة واحدة لينكشف الغموض عنها، تهللت أساريره لمعرفة هويتها، إذًا تلك المثيرة الغامضة هي قريبتها، تحرج من كشف أمره عندما طال شروده، عمد إلى تغيير الموضوع قائلاً:
-لا، لا.. أنا فقط اتفقد شيء ما يخصني
استشعرت وجود ما يخيفه عنها، هكذا أنبئها حدسها النسائي، لذا سألته بفضول:
-ألهذا علاقة بـ "كنده"؟
رد بلهجة جادة:
-لا تعبثي معي "جوانا"، لم يكن بيننا شيء
التقط أنفاسه ليواصل بحدة:
-لماذا يصر الجميع على وجود علاقة رسمية بيننا؟
تعجبت من انفعاله الزائد، ومع ذلك بررت اعتقادها قائلة:
-ولكن هي من يقول ذلك، و...
قاطعها بنبرة متصلبة:
-لا تصدقي أكاذيبها، مجرد علاقة عابرة وانتهت
فركت عنقها المرهق بأصابعها وهي ترد باقتضاب:
-حسنًا
عادت نبرته للهدوء حينما تابع:
-أخبريني، هل والدك بخير؟
التوت شفتاها بابتسامة صغيرة صافية وهي تجيبه:
-نعم، هو لا يزال في جولته الترفيهية مع أمي
أتاها صوت ضحكته العابث قائلاً:
-يقضيان شهر عسل
تورد وجهها بخجل بائن من تلميحه الصريح، عضت على شفتها السفلى قائلة:
-شيء من هذا القبيل
تابع مضيفًا بودٍ:
-أرسلي سلامي لهم، وأخبري عمك أن سأزوره قريبًا
عقدت ما بين حاجبيها متسائلة باستغراب:
-لماذا؟
-للحديث عن العمل، وهل ورائنا شيء غيره يا "جوانا"
تنهدت قائلة بضجر:
-أوه، نسيت!
-سلام يا حلوة
اتسعت ابتسامتها مرددة بخجل أكبر:
-أراك لاحقًا يا "عاصي"
أنهت معه المكالمة وهي تتعجب من ذلك التعرق الزائد الذي انتابها لمجرد حديثها معه، فسرت الأمر لكونه الشاب الأكثر شهرة في الأوساط لمغامراته العاطفية وملاحقة الفتيات له، نهرت نفسها بجدية لاهتمامها المفاجئ به:
-أفيقي "جوانا"، لا تنسي أنه يعاملك كأخته، فلا تحلقي بأحلامك عاليًا
تنهدت متابعة بإحباطٍ:
-أه لو أقابل حب عمري!
ضحكت ساخرة من تفكيرها المحدود حاليًا حول إيجاد الزوج المناسب لها، لم تنتبه لخطواتها وهي تستأنف ركضها لتصدم دون قصد بأحد الأشخاص من ذوي الأجساد الرياضية الضخمة، أسندها من ذراعها برفق فتحرجت منه، اعتدلت في وقفتها معتذرة بخجل
-أوه، أسفة!
رد بابتسامة صافية وهو يضبط وضعية حقيبته على كتفه:
-بل أنا الأسف، كنت مشغولاً في هاتفي، هل أنتِ بخير؟
ابتسمت بخجل أكبر وقد تحولت بشرتها لحمرة كثيفة:
-لا تقلق، أنا في أحسن حال
مد يده لمصافحتها متابعًا:
-معذرة، لم أقدم لكِ نفسي، أنا "راجي" لاعب كرة القدم
هتفت بحماسٍ وبعدم تصديق وهي ترمش بعينيها:
-الظهير الرباعي في فريق النادي
ازدادت ابتسامته اتساعًا مع حماسها المرح ليقول لها وهو يشير إلى يده الممدودة نحوها:
-نعم، يبدو أنكِ تعرفيني جيدًا
صافحته هي الأخرى مبررة اهتمامها:
-بالطبع، أنا مهتمة بمتابعة أخبار اللاعبين و..
أدركت أن حماسها كان مبالغًا فيه، سحبت يدها من بين أصابعه مرددة بتردد مرتبك:
-احم .. لا تسيء فهمي، أنا شغوفة بالفريق
وضع يده أعلى رأسه يحكه قائلاً:
-أتفهم مقصدك، لا تقلقي، ولكني لم أعرف اسمك بعد
عضت على شفتيها هامسة:
-أنا "جوانا"
رحب بها بابتسامة صغيرة:
-مرحبًا "جوانا"، سعيد بمقابلتك
-وأنا كذلك
لم يعلق عليها، واكتفى بالابتسام له، تحرجت من تعطيلها له دون سبب مقنع، فردت بارتباك:
-سأنصرف الآن
هز رأسه قائلاً بتفهم:
-تفضلي، وأتمنى أن نلتقي من جديد
أشرقت نظراتها هاتفة:
-بالطبع، أنا أتواجد يوميًا هنا
أدركت أن لسانها يسبقها في التعبير بعفوية عن حماسها دون التفكير، اشتعل وجهها بحمرة قوية مرددة بتلعثم خجل:
-أقصد أتمرن على الركض في نفس التوقيت، أنا ... فرصة سعيدة، إلى اللقاء
فرت من أمامه وهي تلوم نفسها على تصرفاتها الطفولية معه، تمتمت من بين شفتيها المضغوطتين:
-يا إلهي، كم أنا خرقاء
تعلقت أنظار "راجي" بها رغم ابتعادها، فرك مؤخرة عنقه مرددًا لنفسه:
-رائعة تلك الفتاة
*****
القصة القصيرة (ديلارا):
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
الفصل الخامس (والأخير)
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ظنت أنه حلم عابر حدث في غفلة منها وانقضى قبل أن تكتمل جوانبه، أفاقت من نومها لتغسل وجهها، تجسد طيفه مرة أخرى في انعكاس المرآة ليخفق قلبها بقوة من مجرد تخيله، تنفست "ديلارا" بانتظام لتضبط أنفاسها المتوترة، حدثت نفسها قائلة:
-عليّ أن أتوقف عن التفكير به
رفعت رأسها للأعلى في كبرياء متابعة حديث نفسها:
-هو مجرد وهم وانتهى!
نفضت شعرها للخلف بعد أن مشطته بأصابعها، عقدته كعكة سامحة لبعض الخصلات بالتدلي بعدم انتظام خلف أذنيها، شعرت بخواء معدتها فقررت أن تنزل إلى المطبخ الموجود بالطابق السفلي لتتناول ما يسد جوعها مؤقتًا دون أن تبدل منامتها الحريرية ذات اللون السماوي، التقت "ديلارا" بإحدى الخادمات التي كانت تحمل صينية مليئة بالعصير الطازج، استوقفتها لتأخذ أحد الأكواب الزجاجية، دست القليل من المشروب المنعش في جوفها وهي تكمل سيرها نحو الردهة، سمعت همهمات تأتي من غرفة الصالون فأدارت رأسها في اتجاهها، لم تتوقع وجود بعض الضيوف في ذلك التوقيت المبكر، لمحت والدتها تحدث أحدهم بضحكة متحمسة، ركزت أنظارها عليها حتى التفتت "بشرى" نحوها قائلة ببسمة عذبةٍ:
-تعالي "ديلارا"!
تحركت بخطوات متهادية نحوها غير متهيأة لتلك المفاجأة التي تنتظرها بالداخل، خطت نحو غرفة الصالون وهي ممسكة بكوبها الزجاجي، لم يطرأ ببالها أن حلمها ينتظرها به، ولجت "ديلارا" مركزة أعينها على وجه والدتها البشوش، أشارت لها الأخيرة بيدها لتتبع حدقتاها إشارتها، تجمدت نظراتها المصدومة على وجهه الذي كان يطالعها بابتسامة واثقة للغاية، شعرت كما لو كان العالم قد انفصل من حولها لتغدو أسيرة لأحلامها، إنه نفس الشاب الذي قبلها برغبة أشعلت روحها، فأصبح ملازمًا لها في ليلها الطويل يزور أحلامها يوميًا، لم ترف عيناها، وظلت محدقة فيه بذهول عجيب، تلاحقت دقات قلبها بقوة حينما استطرد حديثه يناديها:
-"ديلارا"
رددت في نفسها بعدم تصديق:
-يا إلهي، إنه يعرف اسمي، كيف هذا؟
اقترب منها بخطواته وهو يمد يدها نحوها لمصافحتها، أخفضت نظراتها لتحدق مصدومة فيها، أحست أن الأمر يفوق قدرتها على الاحتمال، ارتخت أصابعها عن الكوب الممسكة به ليسقط من راحتها متهشمًا إلى أجزاء صغيرة، تعجبت "بشرى" من الحالة الصادمة التي اعترت ابنته فجأةا، وما زاد من خوفها عليها حينما رأتها تنهار بعدها مهددة بفقدانها للوعي، أسرع "عاصي" نحوها يتلقفها بين ذراعيه قبل أن تسقط على الزجاج المهشم، التصقت رأسها بصدره، وحدق فيها متأملاً وجهها بنظرات مطولة، تساءلت أمها من خلفه بخوفٍ:
-ماذا أصابها؟!
انقبض قلبه خوفًا عليها، حملها برفق متجهًا بها نحو أقرب أريكة، أسندها عليها بحذرٍ، ثم آمال رأسها للجانب، ربت على وجنتها برفق هامسًا لها:
-"ديلارا"، هل أنتِ بخير؟
لم يظهر منها أي بادرة تدل على استجابتها لصوته، وقفت أمها خلفه متسائلة بنبرة قلقةٍ للغاية:
-ابنتي، ماذا حدث لكِ؟
التفت "عاصي" نحوها متابعًا بصيغة شبه آمرة:
-من فضلك سيدتي، احضري لي بعض العطر
-حسنًا
قالتها وهي تسرع في خطاها لتنفذ ما طلبه على عجالة، تلفت "عاصي" حوله باحثًا عن بعض الماء ليستخدمه في إفاقتها، لمح زجاجة كريستالية مليئة به و موضوعة على طاولة الطعام بالخارج، اعتدل في وقفته مهرولاً للخارج ليأتي بها، عاد إلى أميرته النائمة ناثرًا بعض الماء على راحة يده ليبللها، جلس إلى جوارها على طرف الأريكة، انحنى نحوها ممررًا ذراعه خلف عنقها ليرفع وجهها إليه، مسح بكفه على وجنتها برفقٍ فبدأت تتجاوب معه، أصدرت "ديلارا" أنينًا خافتًا وهي تحرك رأسها للجانبين، همس لها بنبرته الخافتة:
-"ديلارا"!
حفزته شفتيها المرتجفتين لتلمسها من جديد، قاوم أفكار رأسه الجامحة لكنه لم يصمد كثيرًا أمام جمالها المغري، زادت الرغبة بداخله وأقدم على فعل ذلك دون النظر لتبعات جرأته، فتحت "ديلارا" عينيها بتثاقل محاولة إجبار جفنيها على البقاء مفتوحين، شعرت بتلك اللمسة العميقة على شفتيها، وأحست بأنفاس حارة تضرب وجنتها، استغرقها الأمر لحظات لتستوعب ما يحدث لها، إنها نفس القبلة من نفس الشخص، تراجع عنها لكي لا تثير جلبة، اتضح لها الوجه المشوش المرابط أمامها، شهقت مصدومة حينما اتضحت معالمه لها، انتفضت في رقدتها الغير مريحة محاولة النهوض، ثبتها "عاصي" في مكانها قائلاً:
-اهدئي
سألته بنبرة مهتزة:
-كيف جئتُ إلى هنا؟ وكيف تقبلني هكذا؟
أجابها بهدوء وهو يمسح تلك قطرات الماء المتجمعة عند شفتيها:
-أولاً أنا صديق العائلة، أما عن القبلة فصدقيني، لم أستطع المقاومة
ارتفع حاجباها للأعلى مرددة بعدم تصديقٍ:
-ماذا؟
تابع بنفس الصوت الهادئ الذي يأسر الآذان:
-ربما لم تسمح لي الفرصة لكي أتعرف إليكِ، لكني حقًا في قمة سعادتي لرؤيتك من جديد
ارتبكت من غزله المتواري لها، وتوردت وجنتاها بحمرة طفيفة امتزجت بسخونة قليلة شعرت بها تجتاح بشرتها، واصل حديثه معها قائلاً:
-لقد تعبت من البحث عنكِ
زوت حاجبيها متسائلة بتعجبٍ:
-ولماذا تفعل ذلك؟
حملق مباشرة في عينيها قائلاً:
-لا أعرف إن كنتِ ستصدقينني أم لا، ولكن هل تؤمنين بالحب من النظرة الأولى؟
رقص قلبها طربًا لسماعها لمثل تلك التصريحات الحالمة التي عاشتها بوجدانها بين الأسطر، ردت بأنفاس متلاحقة:
-نعم أومن به
التوى ثغره ببسمة عذبة وهو يقول مؤكدًا:
-هذا بالضبط ما حدث لي معك
أحقًا يحدثها عن الوقوع في الحب؟ هكذا دون أي مقدمات، بدت مستغربة للغاية من كلماته المربكة لها، ارتجف جسدها وزادت رجفتها حينما تابع موضحًا:
-لا أعرف ما الذي أصابني منذ أن رأيتك، لكني لم أعد كما كنت
استنكرت ما رددته قائلة بتوترٍ:
-سيدي، أنت مخطئ، أنا لا أشكل فارقًا معك أو مع غيرك
مد يده ليحتضن كفها بين راحتيه هامسًا لها:
-بل أنتِ من أحدث فارقًا في حياتي اللاهية!
أحست أنها تعايش إحدى القصص الخيالية التي قرأت عنها، زاد إحساسها بذلك حينما طبع قبلة أخرى صغيرة على وجنتها لتتأكد من أنها حقيقة، همس لها بتنهيدة عاشقة:
-أنتِ عروس أحلامي
دفعته بعيدًا عنها مرددة بحدةٍ لتخفي ارتباكها:
-كفا سخافات
أنقذها من ذلك التوتر المهلك للأعصاب حضور والدتها، نظرت الأخيرة لابنتها بسعادة وهي تقول:
-حمدًا لله أنكِ بخير، لقد خفتُ عليكِ كثيرًا
تنحنحت هامسة بارتباك وهي تتحاشي النظر في اتجاه "عاصي":
-لا تقلقي أمي، فقط دوار بسيط لأني لم أتناول الطعام منذ الأمس
أدارت "بشرى" رأسها في اتجاهه مرددة بامتنانٍ:
-شكرًا لك "عاصي"
رد بابتسامة صغيرة:
-أنا لم أفعل شيئًا
عاود التطلع إلى وجه "ديلارا" الخجل مكملاً حديثه بتنهيدة:
-المهم أن تكون الآنسة بخير
رمشت بعينيها متمتمة بصوت يكاد يكون مسموعًا:
-أنا كذلك
صاحت "بشرى" بحماسٍ:
-إنها فرصة جيدة لنتناول الغذاء سويًا، لن أقبل بالرفض
خجلت من عرض والدتها المفاجئ والذي يدعوه لبقائه مع عائلتها، ارتفعت دقات قلبها وتسابقت وهي تراقب ردة فعله، صدمها حينما قرر دون تفكيرٍ متعمقٍ:
-وأنا لن أحزنك سيدتي، سأبقى
شهقت "ديلارا" مصدومة حينما أخفضت أعينها لتجد نفسها بثياب نومها، تضاعف ارتباكها منه، هو حتمًا استمتع كثيرًا برؤيتها هكذا، ابتلعت ريقها مرددة بتلعثمٍ:
-اعذرني، أحتاج لتبديل ثيابي
نظر لها بأعين لامعة تعكس اهتمامًا حقيقيًا بها وشغفًا مقروءًا في حدقيته، تحرك للجانب ليفسح لها المجال لتمر قائلاً بابتسامة مغرية:
-تفضلي
تحركت من أمامه بخطوات أقرب إلى الركض لتتركه مشتعلاً بأشواقٍ يود بثها إلى وجدانها، حانت منها التفاتة خاطفة نحوه لتتأكد من نظراته الموجهة لها هي فقط، زاد خفقان قلبها وواصلت صعودها المرتبك إلى الأعلى وهي لا تصدق ما حدث توًا، تهربت منه واعتذرت عن عدم تناول الطعام لينزعج من اختفائها المتعمد، ودَّ لو استطاع الصعود إليها ليخطفها ويهرب بها بعيدًا حتى يفهم منها كيف أوقعته هكذا ببساطة في شباك الحب، اعتذر هو الأخر عن دعوة الغذاء متعهدًا في نفسه أن يتعامل معها بصبر جاد حتى يظفر بها.
*****
توالت بعد ذلك زيارات "عاصي" للأسرة متحججًا بأعذارٍ كثيرة بالرغم من عدم اقتناع "ديلارا" بذلك، فتارة يتعلل بحاجته للنقاش مع والدها السيد "ماهر" للاستفادة من خبراته الجيدة في إدارة الصفقات، وتارة بحاجته الماسة لنصيحة مفيدة لاتخاذ قرار حاسم في مشكلة عويصة تؤرقه، كانت متأكدة أن كل تلك الأعذار من أجل رؤيتها فقط، كان يتصنع الفرص لتبادل الحديث معها حتى باتت إدمانه بالمعنى الحرفي، لم ينسَ لمساتها المختلسة ليده وهي تناوله المشروب كنوع من الترحيب به ليشعر بصاعقة كهربية تصيب خلاياه، ولا طرفتها الرقيقة لتجبره على الضحك بعفوية متناسيًا أي شيء إلا هي، وجد فيها المكمل لروحه، ووجدت هي فيه فارس أحلامها، كانت مستمتعة بمجاراته وباللعب على أعصابه حتى أتلفتها بتهربها الدائم منه، قرر في النهاية بعد أن نفذ صبره التصرف في أمرها، وخاصة حينما لعبت بالنيران وارتدت نفس الثوب الأحمر الناري الذي أوقعه فيها من قبل، تعلل بحاجته الملحة للذهاب إلى المرحاض، ثم تسلل إلى غرفتها لتتفاجأ هي به يجذبها من رسغها إلى الداخل أثناء سيرها في الرواق، صُدمت من جرأته التي تجاوزت تلك المرة كالأعراف، لكنه كان متعطشًا لحبها الذي ملأ فراغ حياته فلم يكبح نفسه عنها، لف ذراعها خلف ظهرها ليقيد حركتها، وباليد الأخرى قبض على كفها ليجبرها على البقاء في أحضانه، همست له بخوفٍ:
-"عاصي"، ماذا تفعل؟
ضمها أكثر إلى أحضانه لتشعر بقوته تتسرب إليها، همس لها باشتياق ملتاع:
-لم أعد أحتمل ما تفعلينه بي
توترت من ذلك الموقف الحرج الذي وضعها فيه، همست له بتوسلٍ:
-أجننت؟ ستراك أمي، وقد يمسك بك أبي و...
قاطعها غير مكترثٍ:
-لا يهم
استعطفته بنبرتها الناعمة:
-أرحل أرجوك
هز رأسه نافيًا وهو يقول بإصرار:
-ليس قبل أن توافقي
سألته بجدية:
-على ماذا؟
رد دون تفكير وهو يطالعها بنظراته الرومانسية:
-على الزواج بي
فغرت شفتيها مدهوشة من عرضه للزواج، رفعت حاجبها للأعلى قائلة بعتابٍ:
-أهكذا تعرض عليّ الارتباط بك؟
أومأ برأسه مؤكدًا:
-نعم
أحنى رأسه عليها متابعًا بهمسٍ خطير:
-وهذا دليل حبي لك
انهال على شفتيها يقبلها بقوة تذيب أي جمود وتبدد أي حواجز قد تقف بينهما، ذابت أحاسيسها الجامدة وأيقظ فيها مشاعر الرغبة والاشتياق، همستٍ له من بين صوتها اللاهث كي لا يسحبها نحو بحور العشق الغريقة:
-"عاصي"، لا تفعل!
همس لها بصعوبة:
-لا أستطيع مقاومتك
عاود تقبيلها بجموح أشد جعله جسدها يحترق على جمرات الحب الملتهبة، تعلقت بعنقه بعد أن أرخى قبضتيه عنها ليزداد وهج العواطف بينهما، أبعد صدغه عن بشرتها ليضيف بصوته الخفيض الذي يجبرها على البقاء تحت تأثير سحره:
-"ديلارا" وافقي أرجوكِ، الكل ينتظر موافقتك أنتِ لأعلن ارتباطنا الرسمي
نظرت له مقطبة الجبين وهي تسأله:
-ماذا؟
عرفت منه أنه جاء لخطبتها يوم فقدت وعيها، لكنه طلب من والدتها عدم مفاتحتها في الأمر حتى تتعرف إليه أولاً، ولكي لا ترفضه دون أن تمنحه الفرصة للتقرب إليها، وحينما فاض به الكيل من مماطلتها قرر مصارحتها، أضاف بهمس مليء بالتنهيدات الحارة:
-أنا أريدك بكل جوارحي
ابتسمت له قائلة حينما تأكدت من صدق مشاعره نحوها:
-وأنا موافقة
أشرقت نظراته نحوها مرددًا:
-حقًا؟
عضت على شفتها السفلى قائلة:
-نعم، لقد تأكدت من حبي لك أيضًا
ضمها بقوة إليه لتشعر بصدره يخترقها، رفعها من خاصرتها ليدور بها في الغرفة هاتفًا بحماسٍ متلهف:
-أخيرًا، اعترفت بحبك لي
أنزلها بعد ذلك على قدميها دون أن يحرر خصرها من ذراعه الملتف حوله، داعبت طرف ذقنه قائلة بارتباك:
-سأخبرك شيء ما، لكن عدني ألا تغضب
هز رأسه بإيماءة قائلاً:
-اتفقنا
زفرت بعمق لتتابع بحذرٍ:
-كنت أتابع أخبارك أولاً بأول من "جوانا"، وأحيانًا يمدنا رفيقها الجديد "راجي" بالمعلومات عنك
سلط أنظاره عليها متسائلاً:
-إذًا كنتِ ترسلين من يتجسس عليّ؟
رمشت مرددة بحرج:
-ليس هكذا
-أكملي
-كنت قلقة من علاقاتك السابقة، فتعمدت تجاهلك حتى تمل وتنصرف عني
-وماذا بعد؟
تنهدت مضيفة برقة وهي تعبث بياقته:
-زاد إصرارك بي، وقررت الانتقال للمرحلة التالية
تابع "عاصي" ببسمة عابثة:
-وهي اتلاف أعصابي أكثر بزيادة تجاهلك لي، صحيح؟
زاد ارتباكها المتوتر منه وهي تقول بتردد:
-حسنًا، لم أقصد بذلك إلا التأكد أكثر من اهتمامك بي
شهقت مصدومة حينما شدد من إحاطته لخصرها قائلاً بنبرة ذات مغزى:
-أيتها اللعوب، ستتلقين عقوبة العبث معي!
تأوهت بألم وهي تسأله بحيرة:
-ماذا تقصد؟
-ستفهمين مقصدي حينما نتزوج
قال تلك العبارة وهو يحني رأسه مجددًا على شفتيها ليوصمها بحبه الغير محدود لتزداد علاقتهما توطدًا، ابتعدت عنه لتلتقط أنفاسها ثم تابعت قائلة:
-"عاصي"، أريد طلبًا منك
تلمس ظهرها بأصابعه قائلاً:
-لكِ ما تأمرين
سحبت نفسًا عميقًا حبسته لثانية في رئتيها قبل أن تلفظه لتقول بتردد:
-لا أرغب في حفل زفاف كبير، أحب البساطة وعدم التكليف
بدا طلبها غريبًا عليه، فعادة تحبذ العرائس حفلات الزفاف الكبيرة، لكنها على النقيض تمامًا، سألها باستغراب:
-لماذا؟
أجابته بعبوس بائن على تعبيرات وجهها:
-أنا أخشى من ملاحقة الصحف لنا، فحتمًا سيتم وضعي في مقارنة مع عشيقاتك السابقات، و....
قاطعها واضعًا إصبعه على طرفي شفتيها:
-لا تكملي أرجوكِ، تلك كانت مرحلة عابثة من حياتي لا أحب تذكرها
-إذًا ستفعل ذلك لأجلي؟
-بالتأكيد
تعلقت أكثر بعنقه تضمه إليها، زاد "عاصي" من احتضانه لها، ثم طوقها من خصرها ليرفعها ويدور بها لتحلق معه كالأميرات، وبالفعل لم يمر أكثر من شهر حتى تم دعوة المقربين فقط إلى حفل زفافهما الخاص ليتحقق حلمها بالوقوع في حب عاصف من النظرة الأولى، التفتت "ديلارا" بأعينها إلى ابنة عمها ترمقها بنظرة ذات مغزى، فالأخيرة كانت مثلها على أعتاب قصة حبٍ جميلة مع بطلها الرياضي.
_تمت_
#مجلة_الشفق

0 تعليقات