وسقطت ورقة التوت
قصة قصيرة
بقلم : منال سالم
مجلة الشفق
لتحميل القصة كاملة من هنا
(وسقطت ورقة التوت)
ربما أنا واحدة من مئات الزوجات المصريات اللاتي يعانين في صمت، يتجرعن الظلم والقسوة ويصمتن، لا مجال للشكوى في حياتهن المريرة، كل شيء يهون فقط من أجل صغارهن، فاض بي الكيل فقررت أن أبوح بما لا أستطيع في دفتر أوراقي علِّي أجد بين السطور السُكنى لأوجاعي، كنتُ كغيري من الفتيات الحالمات اللاتي يأملن أن يصرن زوجات لأزواج يغدقن عليهن بالحب والحنان، أن يعشن في كنف أزواجهن ويؤسسن بيتًا على أساس المودة والحب، فأنا ابنة لأحدهم عانت من انفصال الأبوين في سنٍ صغيرة، ورغم ذلك ظلت والدتي على عهد الوفاء مخلصة، لم تسيء إلى أبي، ولم تملأ صدورنا بمشاعر البغض والكراهية، فحياتها عند نقطة ما استحالت معه فقررت الانفصال عنه بهدوء، ومكثت أنا وأخوتي معها فلم تتزوج ولم تأتِ لنا بزوج أم يذيقنا قسوة لن نتحملها، معذرة لقد نسيت في غفلة ما أقول لكم أن أعرفكم بشخصي، لنقل أني أدعى "نهلة"، امرأة متزوجة ولي طفلان، لكني لا أظن أن ذلك الزواج سيستمر طويلاً، خاصة وأنا أعيش حياة مهددة بسبب والدة زوجي، أتصدقون؟ هي وأبنائها يسعون بسعادة شيطانية مخيفة لتدمير أسرتي بغض النظر عن الخراب الذي سيحل بي بعد ذلك، المهم أن يشبعوا ذلك الإحساس المريض المتفشي فيهم.
(وسقطت ورقة التوت)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
معذرة إن انقطعت عن الكتابة لبرهة في أسطر مفكرتي لعدم استطاعتي البوح بالمزيد، كنت بحاجة لجمع شتات نفسي واستعادة جأشي لأستمر في معركتي المصيرية، اعتزلت كل شيء واكتفيت بالدعاء في صلاتي ومناجاة المولى عله يرفق بي ويرحمني من تلك المعاناة الدائمة، فأنا على يقين بأن دعوة المظلوم مجابة حتى وإن طال وقت الاستجابة، ربما من يتطلع إلى حياتي من الخارج سيحسدني معتقدًا أني أنعم في الثراء وترف العيش، لكن من يتغلغل في أعماق ما أمر به حتمًا سيشفق علي، لن ننكر أن المشكلات تحدث بداخل العائلة الواحدة، حيث يختلف فيها أفرادها في الرأي وتحتد النقاشات بينهم، لكن أن يكون وقودها المستمر هو الحقد والغل والغيرة، فتلك توليفة مهلكة أنجانا الله جميعًا منها.
-أصلك غيرانة مني!
تلك العبارة المقيتة التي ترددها "س" على مسامعي لتشعرني بأني أقل شأنًا منها، خاصة إن تفوقت - عمومًا - في إنجاز شيء ما لا يخصها، ورغم كوني كما أشرت من قبل على قدر من الجمال والخُلق إلا أن مقياس الجمال عندها مرهونًا بالقدرة على الرد القوي واللاذع، أتجاهلها مجبرة، فلا بديل لي غير ذلك، ففي بعض الأحيان تعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتردع شخص ما قد أساء إليك وقتها، أما هي فإنها تفوقك براعة، تستلذ بإبراز مهاراتها في إيصال الواقف قبالتها للخروج عن شعوره وبلوغ ذروة غضبه في ثوانٍ معدودة، وكأن في ذلك متعة خفية تشعرها بسطوتها وقوتها، حاولت قدر استطاعتي ألا أحتك بها، أن أتجنب ردودها الفظة إن شاءت الأقدار أن أكون ضحيتها، وإن اضطررت للرد يكون حديثي مقتضبًا وعامًا لا يمسها بسوء، حاولت التصرف بحنكة لكنها ظنت أن في ذلك دهاء مني، لذا كان ردها الساخر:
-طول عمرك سوسة!
*****
أذكر في إحدى المرات أن "س" افتعلت مشكلة كبيرة لكوني أنادي والدتها بـ "طنط"، تلك الكلمة الشائعة التي نلقب بها من هن أكبر منا عمرًا كنوعٍ من الاحترام والتقدير بالإضافة إلى الود والألفة، هتفت متعمدة شحن غضبها ضدي وكأنها تضيف الوقود على النيران لتزداد ألسنتها وهجًا:
-مستكبرة تقولك يا ماما، شايفة؟
نظرت إلى عينيها الماكرتين فوجدت خبثًا لا يضاهيه شيء، اعترضت مبررة موقفي بحذرٍ:
-أبدًا والله، بس أنا متعودة مقولش ماما إلا لمامتي وبس
لوت "س" ثغرها متابعة بنفس اللؤم الشيطاني لتحفزها ضدي:
-شكلنا مش أد المقام
حركت رأسي بالنفي وأنا أرد بجمود مصطنع:
-لا خالص
اقتربت من والدتها أطوق كتفيها بذراعي، وبالأخر أربت على كفها المسنود على فخذها، قبلت رأسها، ثم ابتسمت قائلة بلطفٍ لأبدد أي بادرة بغض تلوح في الأفق:
-حقك عليا يا ... ماما
وكوني قد وجدت صعوبة في لفظها لغير تلك التي أفنت عمرها لأجلنا إلا أنها كانت السبيل لنجاتي من ذلك المأزق الحرج، التفت برأسي لأحدق في وجه "س"، كانت تنظر لي شزرًا، حافظت على بسمتي الباهتة حتى لا أمنحها الفرصة لاستثارة أعصابي من جديد.
*****
أنيت بنفسي وبزوجي عن الكثير مما يُحاك ضدنا، أوصدت باب منزلي على مشكلاتي الخاصة رافضة إقحام أي فرد من عائلتي أو عائلته في صغائر الأمور، كنت أظن بذلك أني أحافظ على عماد البيت، وهم أعدوه ضعفًا، فما عرفته لاحقًا أني كنت الضيفة الأساسية على مأدبة ثرثرة نساء العائلة، فلم تكف "س" و "ص" عن الإساءة لي في غيابي، وبات أمرًا مقبولاً أن يتطرقن بلا سابق إنذار لحياتي الخاصة وإن كان ذلك بالغيبة أو النميمة، تجاهلت كل ذلك لأن زوجي كان معي، يدعمني، يدافع عني، لا يصدق أكاذيبهن، كان حينما يفيض به الكيل يقول باستياء محبط:
-سيبك من كلامهم ده، مش هيودي ولا هايجيب، أنا عارف إنتي إيه كويس
احتوى حديثه على مخدرٍ لأوجاعي، مسكنٍ لآلامي، ففوضت أمري للمولى ليرد غيبتي عني، وسددت أذناي عن أقاويلهن الظالمة، أذكر اتصال والدته لي ذات مرة وعلى غير عادتها في وقت الظهيرة، فوقتها كنت قد انتهيت لتوي من طهي طعام الغذاء، سألتها بهدوء رغم جدية نبرتي:
-خير يا ماما؟
ردت بغموضٍ جعل عقلي يرتاب:
-انزليلي يا "نهلة"، عاوزاكي عندي ضروري
-حاضر
قلتها بلا تفكير وأنا أدعو الله في نفسي أن تكون الأمور بخير، ارتديت عباءتي على عجالة وهرعت إلى منزلها بالطابق الأول، التقطت أنفاسي متسائلة بتلهفٍ بعد أن ولجت للداخل:
-في حاجة حصلت؟
ردت ببرود اتفق مع وجهها الممتقع:
-عاوزاكي تساعديني في ترويق البيت، محدش موجود يساعدني، وزي ما إنتي شايفة البيت يضرب يقلب
تلفت حولي لألقي نظرة شاملة على محتويات المنزل، كان أغلب ما فيه فوضويًا يحتاج لإعادة تنظيم، ناهيك عن كم الأشياء الملاقاة بإهمال حولك وكأن حربًا قد اندلعت بالمكان، أحنيت رأسي على صدري بتعب وأنا أخرج تنهيدة مطولة من صدري، هكذا الأمر إذًا، هي بحاجة لمن يساعدها في تنظيف المنزل بعد انصراف بناتها بصحبة أزواجهن وصغارهن للاستمتاع بالخارج، حاولت ألا أظهر ضيقي كي لا تتخذ الأمر ذريعة لخلق مشكلة ما، وتدعي تقاعسي عن أداء مهامي كزوجة مرتبة محبة للنظافة والنظام، فهكذا عُرف عني منذ أول يوم وطأت فيه منزلهم، شمرت عن ساعدي قائلة باستسلام:
-حاضر، هاروح أجيب المكنسة وأروق البيت!
ابتسمت قائلة بتأويهة مرهقة وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-طيب أما تخلصي ناديني، أنا هافرد ضهري ربعاية كده على السرير لأحسن مش قادرة خالص، أه يا مفاصلي
نظرت لها بأعين محتقنة غيظًا مانعة سبة تقاتل للخروج من جوفي للتعبير عن سخطي، من المفترض أننا سنتعاون سويًا، لكنها ألقت بالحمل كله على كاهلي لأهلك وحدي في تنظيف ما ليس لي، خارت قواي مع انتهائي من أخر مهمة لي به، حيث أفرغت النفايات في الصندوق المخصص لها بجوار باب المنزل، رفعت رأسي للأعلى لأجد بناتها عائدات وصوت الضحكات المجلجلة يصدح في الأجواء، أظلمت نظراتي نحوهن خاصة حينما نطقت "ص" باستخفاف وكأني خادمتها الشخصية متناسية أني زوجة أخيها:
-إنتي لسه مخلصتيش؟
رددت بغضب ظهر في نبرتي:
-والله لو لاقيت اللي يساعدني كنت خلصت، بس أنا لوحدي وبأروق بيت ماما!
اندفعت للأمام متعمدة لكزي في كتفي وهي تمرق للداخل دون أن تمنَّ عليَّ بكلمة شكر واحدة، تبعتها أختها "س" وباقي العائلة داعسين بأحذيتهم المتسخة الأرضية النظيفة التي مسحتها قبل قليل، لم يرفقوا بمجهودي الذي بذلته، ولم يشفقوا على تعبي الواضح للعيان، بل تعمدوا إضاعة ما بذلته وأفنيت طاقتي فيه هباء ليتضاعف حنقي بداخلي، حاولت تهدئة نفسي، لكني فشلت، فكنت أحترق كالبارود وأنا أراهم يعيثون في المنزل الخراب، لم أتحمل المشهد فجرجرت أذيال خيبتي خلفي وعدت إلى منزلي باكية، فأي عذاب بعد ذلك يمكن احتماله؟
*****
كثيرات منا تحلم بأن يرزقها الله مولدًا يشبه زوجها أو حتى يمتلك سماته وخصوصًا إن كانت تعشقه، منحني المولى تلك النعمة في بداية زواجي وبلغت سعادتي عنان السماء حينما علمت أني أحمل في أحشائي جنينًا سيخرج للعالم ليناديني بأحب الألقاب وأغلاها "أمي"، للأسف لم تكتمل فرحتي، فكثرة الضغوطات النفسية في الفترة الأولى من الحمل عرضتني للإجهاض، لجأت للطبيب النسائي ليساعدني آنذاك، لكن مات وليدي قبل أن تكتب له الحياة، فأعطاني بعض الحبوب لتساعد في نزول الدماء الفاسدة من رحمي، ورغم ذلك ظلت بقاياه عالقة بداخلي ترفض التخلي عني، كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليّ، أن أخسر قطعة ثمينة مني تمنيتها هكذا وببساطة، طمعت أن يخلفني الله خيرًا منه، وتمسكت بذلك الأمل فرحمته أوسع من كل شيء، يومها لم أعد إلى منزلي، أشفق عليَّ زوجي وطلب من رفيقاتي المقربات القدوم إليّ والترويح عن نفسي الملتاعة، فالخطب جلل بالتأكيد، كان موفقًا في اقتراحه فوجودهن معي هون من قسوة الخسارة، نعم ففي رفقة الأحباء رحمة خفية.
صادفت يومها "س" وهي تتجول برفقة ابنتها، لم تكن على علم بإجهاضي، لذا لم تأخذها بي شفقة معتقدة أني ألهو مع صديقاتي وأمرح، نظرت لي بغل لم تخفيه متأملة ما معي من مأكولات اشترتها لي الرفيقات، تحدثت من زاوية فمها قائلة بامتعاض ساخط:
-اتفسحي واتبسطي يا حبيبتي، عقبالنا احنا كمان
ربتت على كتفي بقوة فتألمت بصوت خفيض، شعرت بتلك النغصة العنيفة تعصف بأسفل معدتي، كنت أخوض معركة حامية الوطيس في داخلي، دافعت عني إحدى صديقاتي لكنها كانت سليطة اللسان معها، بت في موقف حرج للغاية، اعتذرت من رفيقتي بأسفٍ شديد، ثم استدرت برأسي لأحدث "س" قائلة بعتابٍ:
-مايصحش كده، عيب عليكي!
رمقتني بنظرة أخيرة تحمل البغض متفوهة بالمزيد من الحماقات قبل أن تتركني وتنصرف ساحبة ابنتها المتذمرة خلفها، استشعرت في نفسي كارثة وشيكة، لذلك عدت إلى منزلي وأنا متوجسة خيفة من شر تلك الحقود ومقاومة الآلام التي تفتك بي، أخبرت زوجي بصدامنا، لكن حدث ما كنت أخشاه، وقامت الدنيا ولم تقعد، وجدت والدة زوجي تدق باب منزلي ليلاً لتمطرني بوابل من الكلمات القاسية والاتهامات المجحفة، فابنتها قد ادعت بالباطل أني قابلتها بفتور ورفضت شراء الحلوى لصغيرتها، دافعت عن نفسي باستماتة المظلوم المقهور بعد أن أصبحت في مواجهتها:
-قسمًا بالله ما حصل، ده هي كانت ....
قاطعتي هادرة بصوتها المرتفع رافضة الإنصات لي ولتسمع الجيران فضائحنا:
-مستخسرة تجيبي للعيلة أكل، إنتي إيه مش بني آدمة، خلي في قلبك شوية رحمة
اعتصرت الآلام المبرحة أسفل معدتي بشراسة، أحسست أن جزءًا من رحمي ينفصل عن جسدي من قسوة ما ألقاه على يدها من عذاب نفسي وبدني مستمر، كتمت أوجاعي المهلكة في نفسي، لكن عكس وجهي المحتقن بصورة مخيفة ما يحدث بداخلي، شعرت فجأة بتدفق الدماء من جسدي ملوثة الأرضية من أسفلي، شهقت وأنا ارتجف خوفًا من هول المنظر، نظرت لي بصدمة ولم تظهر شفقتها أو حتى تعاطفها معي، بل على العكس مصمصت شفتيها قائلة ببرود:
-أنا بأقولك كده عشان متكرريش الحكاية دي تاني، سلام!
خفق قلبي بقوة وأنا استغيث بزوجي لنجدتي، فالأخير كان في موقف لا يُحسد عليه، بين مطرقة أمه وسندان حياتنا التي باتت على المحك، فَزِع لرؤيتي هكذا وأنا غارقة في دمائي القاتمة ومستندة على عتبة الباب، أكاد أكون بين الهذيان واللا وعي، أسرع يحملني إلى أقرب مشفى ليتم إسعافي قبل أن أهلك بين ذراعيه، تلقيت هناك الرعاية اللازمة ومكثت به حتى تعافيت إلى حد ما، أتعتقدون أنها اكتفت بعد ذلك؟
دومًا أسأل نفسي حينما أختلي بها لماذا أقبل بكل ذلك الذل والهوان مع أمثالهم من أشباه البشر؟ أليس من الأسهل الانفصال والرحيل؟ أليس من الأهون الابتعاد عن ذلك الجحيم؟ ولكن هل يقبل المجتمع بامرأةٍ طُلقت فقط بعد أشهر معدودة من زواجها؟ هل سأسلم من تلك الألسن التي لن تكف عن تقول الأقاويل عني لمجرد إعلان انفصالي هكذا فجأة وبدون أي مقدماتٍ؟ هل سأتحمل نظرات الحزن والحسرة في أعين المحبين لي؟ بالطبع لا، فما أسهل الخوض في الأعراض، وما أسرع انتشار الشائعات في مجتمع يقبل بإذلال المرأة وازدرائها طالما أنها زوجة أحدهم، ولا يقبل بها كمطلقة اضطهدت بشراسة على أيدي حفنة من قساة القلوب.
*****
بعد تلك التجربة المؤلمة، وحينما تماثلت قليلاً للشفاء، وبتُ قادرة على التحرك رفضت العودة إلى منزلي، لم تكن بي الرغبة لرؤية تلك الأوجه التي ساهمت في تدميري بكافة الوسائل، لكني لم أصمد كثيرًا، فإلحاح والدتي المستمر - بالإضافة إلى ما تلقيه على مسامعي يوميًا من كلمات موحية - أشعرني بأن وجودي بمنزل عائلتي غير محبذٍ، وأجبرني بطريقة غير مباشرة على التراجع عما كنت أريد فعله، فعدت إلى هناك شبه محطمة نفسيًا، لن أنكر أن زوجي قدم لي العون لأتجاوز تلك الأزمة، واحتوى ما بي من أوجاع فاستطعت أن أمضي قدمًا، وأنسى ما مررت به، لكن لم يدم الأمر طويلاً، فريثما أصبحت في حالٍ أفضل، عاد كل شيء إلى سابق عهده، نفس التلميحات المهينة والجمل المثيرة للأعصاب، عمدتُ إلى الحفاظ على برودي أمامهن كي أفسد محاولاتهن لتحطيمي.
لم تتمكن ذاكرتي من محو ذلك اللقاء الأسبوعي الذي كان سببًا في زلزلة كياني، فوقتها اجتمع أفراد العائلة على مأدبة واحدة لتناول الطعام كعادتهم ظهيرة كل جمعة، قمت حينها بالإثناء على مجهود والدة زوجي في إعداد المأكولات الشهية، يومها رمقتني "س" بنظرات احتقارية صريحة، ثم صاحت متعمدة إحراجي علنًا:
-ما إنتي بألف وش، بتعرفي تبلفي اللي قدامك كويس علشان تاخديه في صفك
نظرت لها مصدومة، فأنا لم أنطق إلا بالحق تقديرًا لتعبها، هدرت معترضة بشجاعة لا أعرف من أين أتتني وأنا أهب واقفة من على مقعدي:
-ماسمحلكيش!
نظرت لي باستخفاف، واستمرت في تشويه عبارات مدحي لأصبح في نظر المتواجدين كالمنافقين مستغلة مهارتها الفائقة في الرد بقوة مهلكة جعلتني عاجزة عن مجابهتها، لم أستطع التحمل فانسحبت محتجة على أسلوبها الوقح ورفضت تناول الطعام، التفتُ بأعيني المحتقنة غضبًا إلى زوجي متوقعة أنه سيدعمني ككل مرة كما اعتدت منه وسيذهب معي وأنا أقول بثقة:
-احنا شبعنا، يالا بينا!
ولكن كانت المفاجأة الصادمة لي كليًا أنه خذلني حينما رد قائلاً:
-أنا لسه مخلصتش، لو عاوزة تمشي براحتك!
تجاهل تمامًا ما تعرضت له، ولم ينبس بكلمةٍ واحدة حتى ليوبخ بها أخته كنوعٍ من استرضائي، ظل رأسه محنيًا على صحنه يدس الطعام في جوفه وكأن ما مررت به لا يعنيه بتاتًا، فغرت شفتاي مشدوهة من جموده الحرج الذي ذبحني وبشراسة، هل ملَّ حقًا من الدفاع عني؟ اغرورقت حدقتاي سريعًا بالعبرات المريرة، لم أشعر بمثل ذلك الخذلان في حياتي مثلما شعرتُ تلك المرة، فحينما يتخلى عنك السند تدرك أنك بِتُ بالفعل وحيدًا في مهبِ الريح العاصف، لم أنسَ نظراتها الشامتة الموجهة لي وهي ترسم تلك الابتسامة المستفزة على ثغرها، رمقته بنظراتٍ راجية وأنا أتوسله في صمت ألا يمنحها الفرصة لإذلالي هكذا أمام الجميع، واصلت استجديه برجاء مضاعفٍ في نفسي وقلبي ينفطر قهرًا ألا يتركني، تلك المرة فقط قف معي، لكن لا شيء، تعالت ضحكاتها قائلة بتفاخرٍ:
-أخويا عاجبه الأعدة، مانعطلكيش بقى
هززت رأسي عدة مرات مستنكرة جفائه المفاجئ الذي فاق قسوتها معي فزاد من إحساسي بالانكسار وأوجد شرخًا في علاقتي به، انسحبت من المكان واضعة يدي على فمي لأكتم شهقاتي المتحسرة، أتاني صوتها من الخلف يأمرني:
-اقفلي الباب وراكي!
التفتُ لأرمقها بطرف عيني الباكية بنظرة أخيرة ذليلة قبل أن أهرول عائدة إلى منزلي وأنا على شفا خطوة من الانهيار الكلي.
*****
تسلل بيننا إحساسًا غريبًا لم أعهده من قبل بعد مرور أشهر على زواجي به، فلم يعد يتعامل معي بشغفٍ، بل أصبح الجفاء سمة سائدة بيننا بعد تلك الواقعة المخزية، أَرَهَقت مخاصمتي له لعدة أيام روحي المعذبة، طمعتُ أن يشعر نحوي بالذنب، وبتأنيب الضمير، لكن للأسف بدا غير متأثرٍ وواصل التصرف معي ببرود غير مستحب، اضطررت أن أنهي الخصام موهمة نفسي أن الأمر سيمضي كغيره، عدت إلى طبيعتي من جديد بدون أن أعاتبه، وطويت تلك الصفحة المؤسفة من حياتي محاولة إقناع نفسي أن لكل جوادٍ كبوة، وتناسيت عن عمد خذلانه لي.
علمت فيما بعد بأن والدته تعرضت للانزلاق وهي تغتسل بالمرحاض، فأُصيبت بكسر في الساق مما أجبرها على المكوث في الفراش لمدة لا تقل عن شهرٍ، هرعت إليها لأظهر بادرة ود طيبة، لكن كان ردها على زيارتي بعد ذلك الانقطاع:
-جاية تشمني ياختي؟ اطمني هاقوم منها سليمة!
لا أعرف لماذا تمتلأ صدورهن نحوي بكل ذلك الحقد والغل، تساءلت بعد أن فاض بي الكيل من تلك المعاملة القاسية:
-ليه بتعملوا كل ده معايا؟ أنا أذيتكم في حاجة؟
كانت إجابة ابنتها "س" وقتها:
-مش بنقبلك ولا بنطيقك!
بثت مع كلماتها السامة كل ما يمكن أن يقتل مشاعر الصفح بداخلك لمثيلاتها من غلاظ القلوب، صرخت فيها وأنا أدافع عن كرامتي المغتالة على أيدي نساء تلك العائلة:
-طب ليه وافقتوا من الأول على جوازي منه؟!
التوى ثغرها بتأففٍ واضح وهي تُجيبني:
-مرضناش نزعله، وقولنا جوازة والسلام طالما هايفضل قاعد وسطنا
رددت بترفعٍ وببقايا كبريائي الزائف الذي أُهدر مرارًا وتكرارًا في ذلك المنزل الكريه:
-وعلى إيه تجبروا نفسكم عليا؟ نفضنا من الجوازة دي خالص!
لماذا أحمل نفسي ما لا أطيق وأنا أحترق يوميًا بنيران حقدهن المميتة؟ لماذا أنا مضطرة لاجترار ذكريات أليمة مع أناس لا تعرف إلا الجحود والنكران؟ يومها حسمتُ أمري بترك تلك الحياة التعيسة - بكل ما فيها من ذكريات حزن وقهر – وقررت الانفصال عن زوجي، ردت والدته بشراسةٍ مستخدمة يدها في التلويح:
-مستنية إيه؟ الباب يفوت جمل!
رمقتها بنظراتي المشتعلة حنقًا منها قبل أن أنصرف وأعود إلى منزلي لأجمع ما تطاله يدي من متعلقاتي الخاصة في حقيبة سفرٍ صغيرة وأنا كلي إصرار على الطلاق حتى لو كلفني ذلك خسارة من أحب.
*****
يُقال مجازًا أن بوصلة الحب ترشد العاشقين إلى أوطانهن، توقعت أن يهرع زوجي إليّ محاولاً ترميم الشروخ التي تصدعت في جدار حياتنا مستميلاً قلبي وعقلي لأعود معه من أجل إنقاذ زيجتنا المهددة بالانهيار، لكنه لم يأتِ وأصبح عشقنا وهمًا، بقيتُ وحيدة في منزل والدتي لأسابيعٍ أصغي بقلب موجوع إلى عباراتها المتحسرة على حالي البائس محملة إياي الذنب، نعم هذا ما جنته يدي بقراري الأهوج، فكأي أم تحب فلذات أكبادها لا تتمنى أن تعايش إحداهن ما مرت هي به من تبعات الانفصال، لكن ليس لمشاعري المهانة أي اعتبار، عنفتني لأني لم أصبر واحتسب كأي زوجة تقع في مشكلات مع عائلة زوجها لأرجع إليها هكذا بخيبتي، اكتشفت وقتها أن رحمي احتوى على جنينٍ منه، ورغم تلهفي شوقًا لإنجاب طفلٍ إلا أن رغبتي تلك المرة كانت فاترة، آنذاك حمدت والدتي الله لأنه منحني أحد نعمه لتكون سببًا قويًا من أجل عودتي وإنهاء كل الخلافات السابقة، هللت بسعادة وأنا أجزم أن قلبها يكاد يرقص طربًا:
-شوفتي رحمة ربنا، احنا نلم الليلة يا "نهلة" وترجعوا لبعض، حرام ابنكم ولا بنتكم يجي الدنيا يلاقي كل واحد فيكم في حتة، خلاص اتفقنا؟
ربما كانت محقة في وجهة نظرها، فما ذنب صغير يأتي إلى الدنيا ليعاني فراق أبويه، ومع ذلك أصبت بالاكتئاب بمجرد أن خطت بقدمي عتبة ذلك المنزل، فالأمور لم تعد كما كانت في سابق عهدها، باتت الجدران باردة جافة تبعث على الضيق والانقباض، وأنا لم أعد تلك الشابة البشوش المشرقة التي تملأ الدنيا مرحًا بضحكاتها، حاول زوجي تعويضي لكن تلك المشاعر التي كانت تخدر أوجاعي فيما مضى لم تعد تجدي نفعًا معي، انزويت على نفسي معتزلة الجميع خلال أشهر حملي، وتجنبت اللقاء معهم قدر المستطاع حتى أنجبت صغيري الأول والتهيت مع متطلباته كرضيع، لكن لم يعفني ذلك مما ظنوا أنه حقهم المكتسب نظير عودتي إلى زوجي.
لنواصل معًا القصة المحاكية لواقع عشرات الزوجات المصريات.. أقول عشرات لأني اكتشفت وجود الكثيرات منهن للأسف، وتعج بقضاياهن محاكم الأسرة ...
مرت الأشهر وغدت مشكلاتي تكبر مثل وليدي الأول، فبت أحاسب على كل ما يصدر مني طالما أنه لا يتفق مع أهواء عائلة زوجي بالرغم من حفاظي على وجود ذلك الحاجز بيننا، تعلمت البرود وصار من طبائعي المكتسبة بعد ذلك، بل حتى التجاهل أصبح أحد أهم أسلحتي لمواجهتهم، لكن نساء العائلة لم تدعني وشأني، بتن يتدخلن عن عمد في كافة شئوني، وأيضًا فيما يخص رضيعي، فقط لإزعاجي وكأنهن بذلك يرسخن في ذهني رسالة صريحة أنهن بالفعل يمتلكن زمام أمري حتى وأنا أقاطعهن، ضجرت من تدخلهن السافر في حياتي، من تحكمن الزائد في أبسط حقوقي كشراء ما ينقصني مثلاً.
أتدرون أني اكتشفت مصادفة أن ما أطلبه من البقال لابد أن يعرج على والدته أولاً لتعرف تحديدًا ماذا اشتريت مبدية سخطها منه ثم تعيد إرساله لي؟ أتصدقون حدوث هذا بكل تلك الوقاحة واللا مبالاة بردة فعلي إن علمت بما فعلته؟ هي تعبث بما لا يخصها فقط لإغاظتي، نعم في عرفها لا خصوصية على الإطلاق، وكل شيء مباح ومن حقها أن تطلع عليه حتى لو كانت صغائر الأمور، وبالطبع كانت بناتها على نفس الشاكلة، فأجدهن يتنمرن ساخراتٍ عليَّ بما اشتريته معلنين صراحة أني أقع لقمة سائغة أُطحن بين ضروسهن، لم أعد احتمل، فاض بي الكيل، فتجادلت مع زوجي لإبعادهن عني، لكنه لم يكترث بما أسماه تذمراتي البائسة، بل وعنفني آنذاك بانفعالٍ:
-أنا مش عارف أركز في حاجة، لا في بيت ولا في شغل، تعبت من المشاكل دي حرام عليكي
نظرت له مذهولة بأعين تنحبس الدمعات فيها، الدفة تدار عكس اتجاه التيار وأتحول للملامة دومًا، لم أرغب في البكاء أمامه فيرمقني بنظراته المزعوجة التي تتهمني في صمت بأني ألجأ لتلك الحيلة لأكسب تعاطفه، فوالدته قد أقنعته بذلك، اغرورقت حدقتاي أكثر بالعبرات حينما تابع بعصبيةٍ:
-مش عارف أراضي مين فيكم، إنتي ولا أهلي!!
حبست أنفاسي لأضبط انفعالاتي المتأثرة لكن تلك النظرة القاسية منه أجبرتني على البكاء خاصة حينما اتهمني علنًا:
-وإنتي لو حد داسلك على طرف بتولعيها، هاتفضلي لأمتى عايشة في دور المظلومة؟ ارحميني!
لم أستطع بلع اتهامه الظالم دون أن أدافع عن نفسي، ولم يكن السكوت بالخيار المتاح لي، رددت عليه منفجرة ببكاء مرير:
-إنت مش بتشوف اللي بيعملوه فيا؟ للدرجادي جاي عليا؟!
رد صارخًا ومهددًا بيده:
-قولتلك ماتحطهومش في دماغك، متركزيش معاهم، إنتي ليكي أنا وبس، والحمد لله أنا مش مقصر معاكي، عاوزة إيه تاني؟!
تراجعت خطوة للخلف لأنأى عن أي خطر قد يطالني منه في حالة خروجه عن شعوره، كفكفت عبراتي وأنا أرد بنبرة تحمل الخذلان:
-وإنت كمان اتغيرت معايا؟
صرخ بي بقوةٍ أجفلت بدني:
-من كتر النكد اللي معيشاني فيه، الواحد بيتجوز علشان يرتاح مش علشان يجيب وجع القلب لنفسه، وإنتي بقيتي ماسورة نكد
رددت بنحيب وأنا أرمقه بنظراتي الحزينة وقد اعتصر الألم قلبي المصدوم في قسوته معي:
-يعني أنا السبب؟
لا أعرف ما الذي أصابه لكن ربما مازال لعبراتي بعض التأثير عليه، نظر لي بندمٍ مبعدًا وجهه الشاحب عن نظراتي التي تلومه، هدأت نبرته وخبت عصبيته وهو يجيبني بحذرٍ:
-إنتي اللي حساسة زيادة على اللزوم، وبتفهمي المواضيع غلط، كفاية مبالغة واتعاملي معاهم عادي!
-بعد كل ده؟
رددت بتلك العبارة لنفسي لأرثيها، لكني لم أجد تفسيرًا لما قاله إلا أني أصبحت الظالمة في نهاية المطاف، ناكرة الجميل التي لا تقبل اليد الممدودة لها بالخير، المتعجرفة التي تقابل الإحسان بالإساءة، تحسرت على حالي وأنا أجد نفسي موضوعة ظلمًا في مكان لا يخصني، ابتعدت عنه فما سيقال بعد ذلك لا جدوى منها، بل وربما يحمل الخسارة لكلانا.
*****
انزويت في غرفة الرضيع أبكي مثله متألمة، رفعت بصري للسماء وأنا أضمه إلى صدري أشكو المولى عله يسمع دعائي من فوق سبع سماوات، نمت يومها مفطورة القلب، مليئة بالهموم والأحزان متذكرة كل إساءة تعرضت لها معهن، إن استسلمت لإحباطاتهن سأهلك عما قريب، عقدت يومها العزم على البقاء قوية من أجل صغيري، لن أنهار وسأكافح لأبقي عائلتي بعيدة عنهن، هداني تفكيري المتعمق لأمرٍ لم أحاول تجربته من قبل، شعرت بالحماسة تجتاحني وأنا أرتب أفكاري لأعرضها على زوجي، انتظرت اللحظة المناسبة لأفاتحه فيما عقدت النية عليه قائلة:
-عارف الحل لكل اللي احنا فيه ده هو إننا نبعد عن هنا
سألني بغرابة واضحة على تعبيرات وجهه:
-قصدك إيه؟
أجبته بهدوءٍ حذر مترقبة ردة فعله:
-يعني نبيع الشقة ونمشي
اتسعت حدقتاه مرددًا بذهول:
-إيه؟ نبيعها؟!!
تأملت ردة فعله بخوفٍ وقلبي يدق بعنفٍ، لكني استجمعت شجاعتي موضحة:
-أيوه، طول ما إحنا عايشين وسط العيلة مش هانخلص أبدًا من المشاكل يا حبيبي، لا هما هيبعدوا عني، ولا أنا هارتاح من اللي بيعملوه معايا، فكر فيها وهتلاقيه الحل المناسب للكل
بدا مصدومًا وهو يردد على مسامعي:
-إنتي بتقولي إيه؟
اقتربت منه مؤكدة بحماسٍ انعكس في نبرتي:
-صدقني هنرتاح كلنا
استخدمت أسلحتي الأنثوية في إيصال فكرتي إليه، نظر لي مليًا دون أن ينبس بحرفٍ، فتعشمت يومها خيرًا بوجود بارقة أمل تلوح في الأفق مع صمته الذي طال، كان مقتنعًا إلى حد ما باقتراحي لأسباب كثيرة عايشها معي، ربما يكمن الخلاص في الرحيل والبعد عن بؤرة الصراعات التي لا تنتهي، بقي لي الضغط عليه برفق لأجعله يرى الأمور من منظوري، أفضت في الحديث واسترسلت موضحة له السلام الذي سيعم على الجميع مع الإقدام على تلك الخطوة الحاسمة، لم يقاطعني، وكانت تلك بادرة أخرى طيبة، في الأخير تنهد قائلاً باستسلام:
-سيبيني أفكر في الموضوع ده!
رقص قلبي طربًا مع كلماته التي أثلجت صدري وروت عطشي بعد سنين عجاف، أخيرًا سأنعم بالسُكنى إلى جوار زوجي بعيدًا عن ذلك العذاب النفسي الذي أرق مضجعي لفترة طويلة، استبشرت خيرًا لنجاحي في التأثير عليه، وتعشمت أن تأتي نتائج الأمور كما خططت، وعدني "زوجي" بعد أن اقتنع باقتراحي بمفاتحة عائلته – وخاصة والدته –ورغم اعتراضي على ذلك لكونه شأننا الخاص إلا أني احتفظت بضيقي بداخلي، وشجعته على المضي قدمًا فيه، كنت متحمسة فعليًا للانتقال من ذلك الجحيم حتى لو سكنت في منزلٍ متواضعٍ في حي شعبي، انتظرت على أحرٍ من الجمر نتيجة لقائه معها، ظللت أعد الثواني بشغفٍ وتوهمت أن الجميع سيسعد بذلك معتقدة أنه بابتعادي عن أفراد عائلته سنرتاح جميعًا.
للأسف لم تدم فرحتي طويلاً وتبخرت أحلامي الوردية، فمع عرضه لذلك الاقتراح على والدته قامت الدنيا ولم تقعد، اشتعلت الأجواء في الوسط، ولم تبقِ الأمر بيننا، أكاد أجزم أنها كانت تتعمد الصراخ على الدرج بأعلى نبراتها لتوهم الجيران بأني الزوجة الشريرة الجاحدة القاسية المتسلطة التي تسعى بخطوات شيطانية لقطع الرحم مع من وهبته لَبنِها، استندت بظهري على باب منزلي مصغية لصراخها المتشنج وهي تنعتني بأبشع الألفاظ، سددت أذني باكية بحسرة على ضياع حلمي وإهانتي من جديد، لم أعِ ما الذي حدث بعد ذلك، فقد انهارت قدماي من هول الصدمة وفقدت وعي لأكتشف بعدها أني أحمل في أحشائي طفلي الثاني.
*****
لنقل أن ذلك الخبر الصادم لي أنجاني من معركة قاسية مع والدة زوجي مؤقتًا، أو أجل لحظة المواجهة، فقد حذر الطبيب النسائي من خطورة الضغوطات النفسية في تلك المرحلة الأولى من الحمل خاصة حينما اكتشف التهديدات الحرجة التي يمكن أن تلحق الأذى بالجنين إن بقيت حالتي النفسية في أدنى مستوياتها، وبالطبع ألغيت فكرة الانتقال إلى مسكن أخر حتى لو كان مستأجرًا، لاحقًا حاول زوجي ترميم التصدعات الموجودة مع عائلته آملاً أن تتحسن العلاقات الطيبة – إن وجدت - بيننا، لكننا كنا نعلم في قرارة أنفسنا أنها لم ولن تكون ودية أبدًا، ظل الوضع متأرجحًا بين شدٍ وجذب حتى أنجبت صغيري الثاني، فعادت تدخلات والدته وشقيقاته في حياتي بقوةٍ ولم أستطع ردعهن بمفردي، بت أخوض كل مواجهة بمفردي، وأصبح دفاعه عني أمرًا مستبعدًا.
وصلنا إلى مفترق الطرق حينما ألزمني بالذهاب مع عائلته إلى ما أسموه بالعطلة الصيفية، لكنها كانت كالأشغال الشاقة بالنسبة لي، فبالإضافة إلى رعاية صغيري كنت مجبرة على خدمة والدته وتلبية رغبات بناتها وأطفالهن، سئمت ذلك الاستعباد منذ أول لحظة ولجت فيها للمصيف واعترضت على تلك المعاملة قائلة بكرامةٍ وعزة نفسٍ عالية:
-أنا مش خدامة هنا، كل واحد مسئول عن نفسه، اللي عاوز حاجة يعملها، محدش يطلب مني حاجة!
اعتبرت والدته جرأتي أنها إهانة شخصية لها، فردت بغيظٍ:
-إنتي ازاي بتتكلمي معايا كده، إنتي قاصدة تعكنني علينا، كل ده علشان طلبت منك تغسلي كام طبق، وتعمليلي شوية شاي!
ثم التفتت ناحية زوجي متابعة بشراسة:
-هي دي اللي اتجوزتها؟ شايف بتعامل أمك ازاي!
لم أكترث بما تلقيه من سموم من جوفها على مسامع المتواجدين، بل دافعت عن كرامتي التي اغتيلت مرارًا بأيدي كل فردٍ منهم:
-ده نظامي من هنا ورايح، أنا مش جاية من الشارع علشان أتعامل بالشكل ده، أنا بنت ناس ومن عيلة محترمة!
هنا تدخلت "س" لتدعم موقف والدتها في الهجوم على شخصي، فهدرت صارخة:
-ده احنا نبقى غلطانين لو سكتنا لواحدة زيك
احتدم الشجار بيننا وهدد بوجود اشتباك بالأيدي، لكن تدخل زوجي لمنعه قائلاً:
-"نهلة"، كفاية بقى من فضلك!
نظرت له بأعينٍ مشتعلة بحمرة مغتاظة، لكني استشطت غضبًا في لحظة حينما أمرني:
-لمي الدور واعتذري لماما، الحكاية ماتستهلش كل ده
انفرجت شفتاي معبرة عن دهشة حانقة من طلبه المستفز للأعصاب المشحونة مسبقًا بكل ما يستلزم الانفجار والتصرف برعونةٍ، أأنا الوحيدة الملامة في كل أزمة تنشُب؟ أأنا الوحيدة المجبرة على الاعتذار والاعتراف بخطأٍ لم أرتكبه؟ صرخت فيه محتجة بشرر ينبعث من مقلتاي المحتدتين:
-مش هايحصل!
نظر لي مدهوشًا، فتابعت بكبرياءٍ وإصرارٍ أشد:
-ولو كان أخر يوم ليا لي معاك، مش هاعتذر لحد أبدًا، مش أنا الغلطانة!
استغلت "س" الموقف لتزيد من اشتعال النيران فقالت بنبرتها الشيطانية مهددة إياي بهدم حياتي:
-يا تعتذري لأمي يا أخويا هايطلقك، إيه رأيك بقى؟
صدمت كلماتها الطاعنة في مقتل الجميع وأجبرتهم على الصمت مترقبين ردة فعلي من تهديدها المهلك، تذكرت وقتها ما اعترفت بفعله مع قريبتها في منزلي وتهديدها بتكرار ذلك معي إن اضطررتها لهذا، لم يعترض أحد على ما قالته، حتى زوجي لم يفق من صدمة خيارها الهادم لأسرته، ركزت أنظاري عليه متوقعة أن يدافع لمرة واحدة عن استقرار عائلته التي أسسها بحبٍ، أن يحمي زوجته وطفليه ممن يهدد بتفكيك شملهم الأسري، لكن خابت توقعاتي فيه وهوت مع خذلانه المُندي للجبين، وبالتالي استغلت "س" الموقف على أكمل وجه لتتابع متحفزة كليًا ضدي ومهينة إياي:
-اللي زي دي ماتتعاشرش، طلقها وإنت الكسبان!
التفت برأسه نحوها صارخًا فيها لأول مرةٍ:
-كفاية، ماتشعلليش الدنيا!
ردت باستنكار ساخط وهي تشير بيدها:
-هاسكت وأحط الجزمة في بؤي إياكش يعجب!
حاول أن يلملم زمام الأمور موجهًا حديثه تلك المرة لي بنبرة هادئة لكنها مُلزمة:
-"نهلة"، اعتذري لماما
رمقته بنظراتٍ احتقارية كارهة له، أتدرون أني في ذلك الموقف تحديدًا ندمت من أعماق قلبي على استمرار زواجي به وتشبثي بتلك العائلة وأنا أعلم جيدًا بُغضهم لي، شعرت بالغضب يجتاحني وأنا أحاول السيطرة على نفسي كي لا أرتكب ما لا يُحمد عقباه في لحظة جموح طائشة، كرر جملته من جديد فلم أتحمل، صرخت معترضة بشراسة وغير عابئة بتبعات ما سيحدث نتيجة رفضي العنيد:
-لأ، سامعني مش هاعتذر لأمك!
ردت والدته متعمدة شحنه ضدي:
-سامع وشايف بتكلم عني إزاي؟
ارتفع حاجباه للأعلى صائحًا بتهديد قوي استشعرته بكل حواسي وكأن طريقة نطقي لكلمة (أمك) قد استفزت رجولته حقًا:
-"نهلة"، اعتذري لأمي ولمي الدور أحسنلك
رددتُ بتحدٍ أقوى وأنا أنظر في عينيه دون أن يرف لي جفنٍ:
-لأ، ولو عاوز تطلقني أعمل كده!
فغر ثغره مدهوشًا من بَوحِي بذلك معلنة تأييدي الصارخ لهدم الأسرة، فلم يعد هناك ما يستوجب البقاء إن ضاع الحب وفقدت الكرامة وتهاوت المشاعر تحت الأقدام، نعم فقد سقطت ورقة التوت أخيرًا، رمقته بنظرة مطولة لكنها جامدة تحمل كل معاني الكره والحقد غير نادمة أبدًا على ما عقدت العزم عليه، فإن كانت النهاية قد اقتربت فلا داعي لأن أدعس ما تبقى من كبريائي النازف لاسترضاء من لن يرتضوا بي مطلقًا حتى لو بذلت روحي فداءً لهم، انتهت العطلة بالنسبة للجميع، وانتهت معها وعود الحب وعهود الزواج الأبدي، عدت تلك المرة إلى منزل والدتي مع طفلين لا أعرف مصير مستقبلهما، لكني اخترت ألا أعيش حياة لا تمنحني إلا الذل والهوان، حياة تميت روحي ببطء شديد وتدفعني إلى حافة الهاوية، فهل أنا بذلك أساءتُ الاختيار؟!
-تمت-
#مجلة_الشفق
روايات وقصص بقلم منال سالم – روايات بالعامية المصرية – روايات حلوة – روايات مصرية – قصص عامية – قصص مصرية
0 تعليقات