قادر قصة قصيرة بقلم محمد العطار _مجلة الشفق

قادر 
قصة قصيرة
- والآن مع الفقرة التي تنتظروها بفارغ الصبر.. الفقرة التي ستثير خيالكم  وستلهب عقولكم  ..موعدكم الآن مع سحر الشرق ...مع حفيد الفراعنة الذين يبدو أنهم  مازالوا قادرين  على إبهار العالم كله  إلى وقتنا الحاضر ..مع  الساحر الفذ
 مسيو قادر  هوديني

قالها مقدم الفقرات في ذلك المسرح الشهير في باريس بلهجته الحماسية التشويقية مما أتبعه تصفيق حار من الجمهور الذي يملأ المسرح على آخره..
 بعدها يظلم المكان  لتسقط  دائرة من الضوء على فتاة حسناء تدخل في مجال الرؤية  تمشي بخطواتها الرشيقة   وهي تقبض بيديها على حزاما جلديا ينتهي بطوق يحيط برقبة نمر أسود يبدو مستسلما لها تماما وهي تدخله إلى ذلك القفص الحديدي الموجود في منتصف المسرح تماما
يتذكر النمر أنه حيوان مفترس ويطلق زمجرته التي ترج أرجاء المسرح 
ترتفع صيحات الجمهور وخاصة الأطفال منهم
ومن الجهة الأخرى يدخل رجل أسمر البشرة   مفتول العضلات  عاري الجذع وهو يمسك بقطعة من الحرير الأسود 
يغطي بها القفص الحديدي التي مازالت الفتاة الجميلة تقف بجواره وهي تمسك الحزام  
يسمع الجمهور  زمجرة النمر وهي تعلو وكأنه يعلن  اعتراضه على هذا الإجراء بعدها يأخذ مفتول العضلات مكانه بجوار الفتاة وبحركة مسرحية تماما يجذب قطعة الحرير وتعلو معه شهقات الدهشة والانبهار من أفواه المشاهدين 
ففي نهاية الحزام  لم يكن هناك وجود للنمر الذي كان يرج المسرح من ثانية بل كان هناك رجل متشحا بالسواد  يرقد منكمشا على نفسه في أرضية القفص 
بحركات بطيئة يتحرك الرجل بداخل القفص وهو يحرص على أن يبقى وجهه لأسفل 
وفجأة يطير السقف العلوي للقفص الحديدي ويهب الرجل  واقفا في نفس اللحظة  ليظهر طوله الفارع وهو يواجه الجمهور ممزقا الطوق الجلدي الذي يحيط برقبته  بكل قوة 
هنا  فقط يضاء المسرح بأنواره المبهرة التي تتسلط كلها على وجه قادر هوديني والذي  يرتسم  عليه تعبيرا دراميا هو مزيج من الارتياح والانتشاء وكأنه تحرر من الأسر بالفعل 

لاشك أنه أنه كان دخولا أكثر من مبهر عبر عنه موجة التصفيق الحار التي استمرت لأكثر من عشر دقائق 
يصاحبها صيحات الاستحسان من الجمهور الفرنسي 
يقف عبدالقادر هواري  ابن محافظة أسيوط وهو ترتسم على شفتيه ابتسامة واثقة حتى يهدأ تصفيق الجمهور ليبدأ عرضه الشيق وتتوالى خدعه المتقنة والتي كان ما إن  ينهي واحدة منها حتى  يصرخ باسمه الذي اشتهر به في فرنسا 
- قااااادر 
ليرد عليه الجمهور  وكأنه اعتاد على هذا  الأمر
- قادرا على فعل  المعجزات
الحقيقة أنه كان بارعا بالفعل .
موهبته وشغفه بما يفعل كانا أصيلان لا وجود  فيه لذرة من ادعاء أو افتعال .
لعل هذا يفسر النجاح والشهرة التي يتمتع بها  لدرجة  أنه أصبح ضيفا دائما في التلفزيون الفرنسي .

ينهي عرضه في الساعات الأخيرة من الليل بعد أن جعل جمهوره في حالة من الانبهار الذي لا توصفه كلمات 
بعد استبدال ملابسه يستقل سيارته وينطلق إلى المستشفى التي ترقد بها ابنته 
يصلها مع أول خيوط الشمس ليجد زوجته الفرنسية التي تقوم لتستقبلة وهي يبدو عليها القلق 
يأخذ بيدها ويجلسها وهو يقول بابتسامته الواثقة التي تعشقها  
- اطمئني يا عزيزتي ..الأطباء أكدوا لنا أكثر من مرة أن الوضع مطمئن للغاية وأن صغيرتنا سترجع تمارس حياتها بصورة طبيعية بعد استئصال ذلك الورم  
ترد عليه وقد هدأت نوعا ما 
- أتعشم هذا ..أتعشم هذا 
يربت على كتفها مشجعا ويقوم ليدلف إلى حجرة ابنته
التي ترتسم على شفتيها ابتسامة مشرقة  عندما تقع عيناها على أبيها   و تفتح زراعيها على أخرها ليهرع إليها قائلا 
- كيف حال ساحرتي الصغيرة
تقول الصغيرة بكل براءة الدنيا  
- أبي ..أنا لست ساحرة بل الساحر هو  أنت ..وبالرغم من ذلك فلا تريد أن تستخدم سحرك في شفائي .
 يرد  بسرعة 
- وما أدراك ..الآن سيأتي بعض من يعملون معي وسيدخلونك  لغرفة سحرية صنعتها لك خصيصا بعدها يمكنك أن تودعي المرض تماما 
ثم يقف وكأنه على المسرح وهو يهتف 
- قااااادر 
ترد عليه ابنته وهي تضحك 
- قادر على فعل المعجزات 
 في نفس اللحظة  يدخل  الطبيب ومعه طاقمه  وهو يقول 
- نحن مستعدون مسيو قادر
يلتفت إلى ابنته وهو يغمز لها بعينه لتعود للضحك مرة أخرى
يراقبها وهي تذهب بصحبتهم وهي تلوح له بيديها الصغيرتان 
 يخرج من الغرفة ليجد زوجته فيرسم على وجهه تلك الابتسامة الواثقة التي تطمئنها  ويبادرها قائلا 
ثلاث ساعات بالتحديد وينتهي ذلك الكابوس 
ولكنه هذه المرة لم يكن دقيقا كعادته 

فبعد مرور عشر ساعات كاملة كانت كفيلة بإحراق أعصابه وانهيار زوجته تماما ها هو يجلس وحيدا مع ذلك الطبيب 
الذي أصر على مقابلته منفردا
يجلس الساحر صامتا  واجما وهو يستمع للطبيب الذي يقول بلهجة يملأها الأسف  
- مسيو قادر بكل حزن يؤسفني أن أقول لك أن ابنتكم لم تعود إلى وعيها  بعد اجراء العملية التي نجح أطبائنا  في استئصال الورم بالفعل ..هذا يدل على أنها ضحية غيبوبة عميقة ستؤدي بعد فترة قصيرة للغاية  إلى حالة موت دماغي 
 وأنت تعلم ماذا يعني هذا ... الأمر يحتاج إلى معجزة حقيقية ..تقبل أسفي الشديد

وكانت الصدمة مزلزلة 
لم ينبث ببنت شفة وكأن لسانه انعقد داخل حلقه 
شريط حياته الآن  كله  يمر أمام عينيه ويرى كل وجه قابله في حياته في مشواره الطويل
ويتذكر وجه ابنته   
تذكر لحظات النجاح التي صنعت منه نجما معروفا 
يعلم أنه كان يفتعل الثقة وأن ما يحدث لابنته سيدمره تماما لا مزيد من قااااادر ..قادر على فعل المعجزات . 
أنت وحيد وبائس  وعاجز تماما ..  
أنت عبدالقادر الذي سيفقد ابنته بعد ساعات ..
عبدالقادر الذي  سيفقد عقله ويصبح حطاما     .... 

ولكن لحظة

هو بالفعل ليس قادرا  بل هو عبدالقادر 
تذكر أنه لم يكن يوما ملتزما دينيا وزاد من ذلك سفره إلى فرنسا حتى أنه أضحى  مسلما على الورق  فحسب ..
منذ متى وهو لم يصلي ..منذ متى وهو لم يدع ربه بصدق 
سنوات طويلة مضت عليه وهو لم يقم بأي شعائر من الأساس 
هو ليس وحيدا  وليس عاجزا 
بل هو عبدا للقادر  
عندها فقط ينتفض في مجلسه ويهب واقفا مما يثير دهشة الطبيب الذي يهتف به قائلا
- ماذا بك مسيو قادر ..وإلى أين ستذهب 
يلتفت إليه عبدالقادر وقد عادت إليه إبتسامته الواثقة 
-طلبت معجزة حقيقية  أيها الطبيب وأنا أعلم الآن من سيأتيني بها ..بالمناسبة اسمي ليس قادر 
اسمي عبدالقادر 
 

إرسال تعليق

0 تعليقات