قصة (ليلة شتاء باردة) - مجلة الشفق

 قصة  (ليلة شتاء باردة)



وجدت نفسي أمشي على أطراف اصابعي، متمايلاً كأحد لاعبي السيرك. كان الوقت حينذاك  قد تجاوز منتصف الليل بساعتين، كنت حذراً جداً في نقل خطواتي ، أدنى حركة خرقاء منّي كانت سَتفسدُ كل شيء خطّطتُ له ، حتى أنها قد توقظ أهلي الغارقين في النوم، وهو ماكنتُ  أرغب بأن لا يحدث بأي حالٍ من الأحوال. انتابتني رجفة جَعلتْ جسدي يختضُّ كله، تباً ! أنه ليس أوان هزُّ الأكتاف يارجلْ، هكذا فكرّتُ مع نفسي ، كان علي كأيُ عاشق أحمق ارتداء ثياب أكثر دفئاً من هذه التي تكسو جلدي الآن! كنت أحدّث نفسي بصمت فيما واصلتْ  قدماي تقدمهما  الحلزوني، تَوقفتُ إزاء الجدار الفاصل بين دارنا ودار الجيران، ثمة خلف الجدار هذا حديقة  مهجورة تعود لهم، وقد زَحفتْ عليها الحشائش البرّية فأضحتْ شبه جرداء. ألقيتُ نظرة أخيرة على أبواب  غرف أهلي الموصدة فيما كانتْ أصابعي تداعبُ حافة السور شبه العالي، صمتٌ مرعبْ ومريبْ لايقطعه إلا أصوات تلك الجنادبْ اللعينة وأحياناً نقيقٌ أخرق لبعض الضفادع في البركْ البعيدة! كانت قريتنا مسالمة وهادئة وذات طبيعة خلاّبة، بيد أن أجمل ما فيها هو نوم سكّانها المبكّر جداً، وكأن سلطان النوم قد أبرم اتفاقاً مبهماً معهم، فهو يلقي بعبائته عليهم بعد غروب الشمس بقليل،وعندها يغفو كل شيء، ويغرق الجميع في سبات لا أوّل له ولا آخر ! تَخشّبتْ أصابعي على حافة السور، بقيتُ ساكناً للحظات ثم مالبثتُ أن رَفعتُ رأسي للسماء بغيومها المتفرقة وقمرها شبه المعتم، لكني سرعان ما هَربتُ بنظراتي حياءً من السماء ، فالتضرّع فيما أنا مقبلٌ عليه كان سيبدو معيباً جداً! سَحبتُ نفساً عميقاً، وبقفزة كلها خوف وارتباك كنت قد أصبحتُ في الجهة الأخرى من السور. بقيتُ متقرفصاً في مكاني،دون أدنى حركة، أما أقدامي فقد غاصتْ في الأرض الموحلة، لم يدم الأمر طويلاً فقد  نَخرتْ البرودة جسدي، أخذتْ أسناني تصطك، أحطتُ ركبتاي بكلتا ذراعي ثم رحتُ اهزُّ نفسي كبندول الساعة! تباً لي ولكسلي، لو أني أرتديت ثياباً دافئة لما حدث لي هذا!أخذتُ نفساً عميقاً آخر ، وحاولت السيطرة على مشاعر الغضب التي أخذتْ تعتلجُ في صدري ، حتى أنني طَردتُ كل الأفكار المتشائمة الأخرى، واقتصر تفكيري على حبيبتي التي تنتظرني خلف زجاج نافذة غرفتها !  رحتُ أمشي على أربع، وكأني إحدى دواب قريتنا ، كان الوحل والطين المتخلّف عن هطول المطر قد شلَّ حركتي، أخذتُ  أنقل اقدامي بطريقة  مضحكة! لكن حذري لم يفارق ذهني ابداً، قَطعتُ مسافة لابأس بها، في سيري الحلزوني هذا. أصبحتْ غرف أهل الدار أمامي  وقد خيّمَ الصمت عليها ، الصقتُ ظهري بجدار إحدى الغرف واتخذتُ من الظلام السائد فرصة للراحة، راودتني رغبة في تدخين سيجارة، سيجارة واحدة فحسبْ، مَددتُ أصابعي الباردة التي لوثها الوحل لكني سرعان ما تراجعتُ عن ذلك، جَمدتْ اصابعي المثلّجة أصلاً في الهواء، أحمق! هكذا هَمستُ لنفسي، أتريد فضح نفسك؟ نهضتُ واقفاً، تلفت يمنة ويسرة، احنيتُ ظهري ثم تَقدمتُ قاطعاً ماتبقى من خطوات، أخيراً أنا خلف النافذة. استجمعتُ أنفاسي، نفخت الهواء بقوة، طرقة واحدة خفيفة على زجاج النافذة، انتظار، ثم كررّتُ ذات الشيء وأخذ قلبي يخفقُ بقوّة، سَمعتُ حركة، أشبه بحركة شخص ينزل عن سرير، رغم العتمة، وعلى نور الغرفة الباهتْ، لمحتُ وجه جميلتي خلف زجاج النافذة! اختفتْ من أمامي، لحظات ثم صوت لقفل الباب وهو يفتح، ياربي! أصبح الأمر قريباً ، استدرتُ بسرعة دون حساب لخطواتي الثقيلة، وجدتُ نفسي أقف بطولي الجميل أمام الباب، لكني كنت أرتجف كورقة في مهب الريح!  ماحدث بعدها أذهلني، ماكدتُ أخطو الخطوة الأخيرة، وقبل أن تمتد اصابعي لتمس أكرة الباب، إذا بخيال كبير لجثمان رجل!كان خلفي، تلفتُ مرعوباً، كان والد حبيبتي يقف فوق رأسي تماماً مثل نخلة فارعة وطويلة! جَمدتُ في مكاني، ارعبني منظر السخرية في عينيه والسيجارة المشتعلة في زاوية فمه، كان يراقبني ! تباً لي من غبي! وبأسرع من لمح البصر ، وضعتُ كلتا يدي فوق رأسي وتوقعتُ ضرباً ولكماً شديداً، لكن أي شيء من هذا لم يحدث، فقط شَعرتُ بهزّة قوية، َفتحتُ عيني على وسعهما! كانتْ أمي تقف فوق رأسي  وهي تردّد :
- اسم الله عليك، مابك يابني؟ لقد ارعبتني كثيراً!. 
غرقت في خجلي،  كنت احلم إذاً !!.
(تمت) 

بقلم /رعد الإمارة /العراق

إرسال تعليق

0 تعليقات