المجتمعات التي إهتمت بالمرأة كنصف المجتمع وإعتنت بها أصبحت من أقوى المجتمعات ودول عظمى يحتزى بها، أما من عملت على كبتها وقتل طموحها فجميعها في طريقها للإندثار.....جميعها ولايوجد إستثناء.
صرخت سيدة وهي تتمسك بكلتا ذراعيها بأعلى السرير الممددة عليه، وتصرخ بكل عزمها من شدة الآلم الذي يفتك بها، وتظهر من الوهلة الأولى أنها تواجه ولادة متعسرة، وحقاً الأمر لا يحتمل خاصة وأنها تلد بمنزلها بأحد الأحياء العشوائية بباب الشعرية بمساعدة حكيمة الصحة فقط وليست الطبيبة....
"هيا هيا يا أم أيمن الطفل على وشك الخروج، رأسه ها هي أمامي" صاحت حكمت الحكيمة وهي تمد يدها لتمسك بذراع الصبي لتساعده ليشق طريقه في هذه الحياة، وهنا صرخت أم أيمن مرة أخرى صرخة كبيرة لكنها مكتومة وهي تجز على أسنانها على منشفة وضعتها لها أختها وما أن إنتهت صرختها حتى علا صراخ الطفل.
"وااااااء وااااااااء" بكى الطفل وحكمت تحمله على ذراعيها وإبتسامة واسعة تملأ وجهها ثم قالت "صبي ، صبي جميل" ثم همّت لتأخذه لوالده لأجل الحلاوة إلا أنها توقفت فجأة قبل أن تلتفت بعيداً عن مكانها وصاحت بهند أخت أم أيمن خذي الطفل بسرعة ، هناك طفل أخر" وبالفعل في لحظة حملت هند الطفل، وعادت حكمت لعملها مرة أخرى، وبعد عدة صراخات أخرى من أم أم أيمن كان صراخ الطفلة الأخرى يملأ المكان بصوتها الرفيع والأعلى قليلاً عن أخيها لكن قبل أن تنهي الحكيمة حكمة عملها إتسعت عيناها لبرهة من الدهشة ثم أسرعت وأعطت السيدة أم أمير جارتهما الطفلة وقالت وقد مدت يدها مرة أخرى ناحية أم أيمن وصاحت "هيا يا أم أيمن.........طفل أخر!"
"ثلاثة؟!.....ثلاثة أطفال..." قال أمين في ذهول وقد سقط جالساً على كرسيه بصالة شقته الصغيرة فرد عليه أخيه شريف "مابك يا أخي، أعرف أنها صدمة" ثم أكمل وهو يبتسم "لكنها صدمة جميلة" فإلتفت له أمين وقال وهو في حالة من الذهول والضيق لا الفرح "ثلاثة أطفال ياشريف، ثلاثة....لقد كان لدي ثلاثة أولاد وها ثلاثة أخرين إذن المجموع ستة أطفال...ستة أطفال؟ كيف سأربيهم ياشريف، أنا موظف حكومي لايتعدى راتبي الخمسمائة جنيه، أخبرني كيف سأنفق على ستة أطفال ووالدتهم؟....حتى عملي الإضافي والذي أعود منه بمنتصف الليل لايكفي للإنفاق على ثلاثة أطفال فمابالك بستة؟!" نظر شريف قليلاً لأخيه وهو لايدري ماذا عليه أن يقول، فحقاً أحوال أخيه صعبة فأمين لم يتسنى له أن يكمل تعليمه الجامعي بل إكتفى بالتعليم الثانوي حين توفى والدهما وإضطر هو للعمل لأجل الإنفاق عليه هو وأخته، وبالكاد إلتحق بعمل حكومي عن طريق أحد المعارف لكن مع الأيام وزيادة الأسعار بدا المرتب ضئيلاً، وإزداد الأمر سوء حين تزوج وأنجب أطفاله ومع أن شريف الأخ الأصغر لأمين إلا أنه الآن يعمل كعالم بالمركز القومي للبحوث بعد أن حصل على بكالوريوس في العلوم بل والماجستير وحالته المادية جيدة جداً رغم أنه هو أيضاً متزوج من هند أخت هدير أم أيمن زوجة أمين أخيه، إلا أنهم لم ينجبا أطفال رغم ذهابهم للعديد من الأطباء وعلى مايبدو أنه لا أمل في ذلك....
"إهدئي يا أختي، من المفترض أن تكوني سعيدة لا أن تبكي" قالت هند لأختها أم أيمن ووضعت يدها على كتفها بعد أن جاءت وجلست إلى جوارها على السرير، فنظرت لها أم أيمن والدموع بعينيها كشلال ينهمر "أهدأ؟!...أخبريني كيف أهدأ وأنا لدي الآن ستة أطفال؟." ثم شهقت قليلاً وإعتدلت في جلستها وراحت تبكي وهي تضرب على رجلها بيدها وتهز رأسها يمين ويسار "كيف أهدأ بالكاد كنا نعيش بأطفالنا الثلاثة وعندما حدثت تلك الغلطة وحدث الحمل حمدنا الله وقلنا طفل أخر سيدبرها الله" ثم إلتفتت لهند وصاحت "لكن ثلاثة" ثم ضربت على وجهها ووضعت رأسها بين راحتيها وراحت تبكي وإجهشت في البكاء....
"هند تعالي دقيقة" همس شريف لزوجته يناديها لتنسحب بهدوء من الغرفة التي تجلس بها أختها أم أيمن وزوجها أمين صامتين ينظران لأطفالهم الستة الثلاثة النائمين بجوارها على السرير والثلاثة الجالسين حولهم......
"هند إسمعيني" قال شريف لزوجته بعد أن أخذها وجلسا على أريكة الصالون بالصالة ووجهت إنتباهها له فقال لها بتردد "ما رأيك في حال اخوتنا....أخي وأختك" فنظرت له قليلاً ثم هزت رأسها بأسى وتنهدت ثم طأطأت برأسها للأرض بحزن فرفع وجهها بأصابعه وقال لها "إسمعيني لديا إقتراح إن وافقتني عليه سأعرضه حالاً عليهم وأعتقد أنهم سيوافقون أو هذا ما أتمناه" فهزت رأسها بالإيجاب وقالت "وما هو هذا الإقتراح؟" فإبتلع ريقه وهو ينظر لها ثم قال بتردد "ما رأيك أن ....أن نتبنى أحد الأطفال؟" فعقدت حاجباها من المفاجأة حتى أن جسدها إنتفض وإهتز قليلاً وقالت بدهشة "ماذا؟!" فأجابها بسرعة "لا أقصد بشكل رسمي لكن سنأخذ طفل منهم سنربيه بيننا سنتكفل به وسيكون ملاكنا، بشقتنا، فأنتي تعرفين الواقع مؤلم وأنه لا سبيل لنا للإنجاب معاً، فإما نفترق أو أن نبقى دون أطفال أو..." ثم إقترب منها ووضع يده على ظهرها ليجعلها تعتدل لتنظر نحو الغرفة والأطفال الثلاثة الرضع النائمين "أو نساعد أخي وأختك ونربي طفلهم ويكون طفلنا ولا أجد أي ضرر في ذلك بل على العكس" فإلتفتت ونظر بعضهما لبعض لبرهة ثم عضت هي على شفتها بقلق وقلبها يدق، وعادت ونظرت نحو أختها وعائلتها ثم قالت بتردد لزوجها "هل تظن أنهم سيوافقان؟" فعلت الإبتسامة وجهه وقال "إذن أنتي توافقين؟" فنظرت له وأجابت وهي تبتسم "لايوجد أعز من الأبناء سوى أبناء الأخت ومادام الله لايشاء أن يكون لي طفل مني، إذاً لا يوجد أغلى منهم" إتسعت إبتسامته أكثر وظهرت السعادة بعينيه وقال لها "حسناً هيا بنا، أي طفل ستختارين؟" فأجابت "جميعهم رائعين، لكن هناك طفلة رق لها قلبي ما أن سمعت صوتها أتمنى حقاً...." ثم صمتت قليلاً قبل أن تكمل وتقول وهي تنظر بعينيه بشغف وشوق للكلمة "أن تكون حقاً....إبنتي" فهز شريف رأسه بالموافقة وضمها إليه قليلاً وتنهد ثم إبتعد عنها وقال وهو ينظر بعينيها "إذن دعينا نحاول" ثم أمسك بيدها وتوجها نحو الغرفة...
"مااااااذا؟! هل جننت ياشريف هل فقدت عقلك تماماً.....مالذي تقوله" صاح أمين بأخيه شريف ما أن سمع إقتراحه، وهما يتحدثان على إنفراد فرد شريف "إسمعني يا أمين أولاًً ولا تأخذ قرارك في لحظة إنفعال، أرجوك فكر في الأمر، أنا لن أخذ الطفلة بعيداً عنكم بل سنأتي دائماًً هنا، بل نحن دائماً هنا معكم، كل مافي الأمر أنها ستبقى الليل بيننا أنا وهند طفلة تملأ منزلنا سعادة وفرح، أنت تعرف الحال وأن الطبيب أخبرنا أن هناك إستحالة لي ولهند أن ننجب أطفال، لذا لايوجد أمل في أن أكون أب ووالد أبداً أنت تعرف كم أعشق هند وأحبها ولا أتخيل حياتي لحظة مع سواها، وأنا لن أغير حتى اسم الطفلة بشكل رسمي ستبقى على اسمك لا فرق في الحقيقة فأنت أخي وزوجتي أخت زوجتك ستكون بين خالتها وعمها فما وجه الإعتراض ولما أنت قلق؟....."
"لا أعرف ياهند، قلقة قلقة وغير موافقة هذه إبنتي ، إبنتي يانااااااااااس إبنتي" قالت أم أيمن بإنفعال لأختها هند وهي تقنعها بالأمر، فردت هند والدموع بعينيها تترجاها "إسمعيني ياهدير أرجوكي، هل أنتي خائفة على الطفلة مني؟! هل لاتثقين في؟" فنظرت لها أم أيمن قليلاً ثم ملأت الدموع عينيها وهزت رأسها بالنفي وقالت "أثق بك بالطبع، أنتي أختي، بل إبنتي الأولى فكيف لا أثق بك؟!، لكن هذه طفلتي ياهند" فجلست هند بجوار أختها وقد أشاحت بوجهها عنها وطأطأت رأسها للأرض ثم قالت والدموع تسيل على خديها وتمسك بيدها إحدى الخواتم بكفها الأخر وقالت وهي تشهق "أريد أصبح أم، هل هذا أمر محرم لهذه الدرجة؟ أنا لن أخذها منك، ستبقى معك ، سنبقى كلانا معك كما هو الأمر الآن، كل مافي الأمر أنها ستكون لي، بين ذراعي دائماً أضمها لي تعطيني الدفىء وهي بحضني أشعر بها وأتنفس رائحتها وأنا نائمة" ثم رفعت عينيها للسماء وصاحت "يا إلهي كل ما أردته أن أبقى مع زوجي وأن أكون أم هل هذا مستحيل إلى هذه الدرجة" ثم وضعت وجهها براحتيها وإجهشت بالبكاء فنظرت لها أختها وهي تبكي أيضاً لكن ما أن رأتها تصرخ وتبكي حتى أسرعت نحوها وضمتها إليها وكلاهما بكى بشدة.....
"أم أيمن" نادى أمين زوجته فرفعت رأسها وإعتدلت في جلستها على السرير ونظرت له بإهتمام فقال لها "أريد أن أتحدث معك في أمر" وقبل أن تجيب أوقفها بحركة من يده وقال "إنتظري" ثم إستدار وأغلق باب الغرفة وعاد إليها...
"هدير إسمعيني عزيزتي" قال لها بهدوء وأمسك بيدها بعد أن جاء وجلس أمامها، ثم قال بتردد "عزيزتي أريد أن أأ" فقاطعته بحزم والدموع بعينيها وبكلمات مختنقة من شدة البكاء "لا تقل لي أنك إقتنعت بإقتراح أخيك، لا لن أتخلى عن طفلتي أتسمعني وإن كانوا تسع أو عشرة أطفال لا تحاول أبداً يا أمين إياك" فأجابها بهدوء وهو ينظر بعينيها والدموع بعينه هو الأخر "عزيزتي إسمعيني حتى أنتهي من كلامي أرجوكي...أنا لا أرى أننا نتخلى عن طفلتنا نحن فقط نتركها برعاية خالتها وعمها ، ما الخطأ في ذلك أنت تفعلين هذا طوال الوقت مع أطفالنا فما الفرق هذ المرة" فأجابت بحزم "الفرق أنهم جميعاً يكونون هنا، تحت عيني، بين يدي، أنام وهم بحضني" فقال لها وقد إتسم صوته بالصرامة والغضب هو الأخر "هدير أرجوكي دعينا من المشاعر قليلاً ولنفكر بمنطق، أنتي تعلمين الظروف وضيق المعيشة رغم أني أعمل طوال النهار ومع هذا الأمر بالكاد يفلح ولا أعلم كيف سيكون الأمر بخمسة أطفال في المستقبل لكن أجيبيني كيف سينفعهم حضنك إن مرض أحدهم ولم يكن معي ثمن الطبيب أو العلاج....هل حضنك وعينيك ستعلمهم، ستطعمهم، ستشتري لهم ملابس، ستعطيهم حياة سعيدة" فرفعت عينيها ونظرت له بلوم ولم تنطق بكلمة فأغمض عينيه قليلاً وقال لها بهدوء "أنا لا أبيع إبنتي فلن أخذ قرش واحد من شريف فقط هم سيرعونها وسيسهرون على راحتها وأنتي متأكده أنهى ستحظى بحياة أفضل معهم عنا، وستظل هي إبنتنا على أسمينا لا تقلقي" فقالت له وهي تبكي "لكن" فأمسك بيدها وإقترب منها أكثر ثم ضمها إليه فراحت تبكي وهو يربت على ظهرها...
بعد قليل إبتعد عنها قليلاً وقال لها "صدقيني هذا أفضل لها ولأطفالنا حتى نستطيع الإهتمام بهم أما عنها فهي لن تفارقنا ، أختك من الأساس تعيش معنا تقريباً لا تذهب لبيتها هي وأخي إلا لسواد الليل فلاداعي لكل هذا إعتبريها بنزهة مع خالتها ليس إلا" ثم صمت وعاد وقال "أرجوكي حاولي أن تفكري في الأمر ببساطة ستجديه حل معقول فسعادة أخي وأختك وطفلتنا متوقفة على كلمة منك" ثم نظر بعيونها الحائرة المليئة بالدموع وقال "إتفقنا عزيزتي" فنظرت له قليلاً وهي تريد أن ترفض لكن كلماته كلها صحيحة وأختها حقاً سيجعلها الأمر أكثر من سعيدة وعليها الآن أن تقرر إما مصلحتها هي وهدوء بالها على طفلتها أو سعادة الجميع فطأطأت برأسها وإستسلمت لقرار زوجها فضمها هو إليه وكلاهما يبكيان ولو كان بصمت....
"يا إلهي" قال شريف وهو يقود سيارته الـ 128 الخضراء في إتجاه منزلهم بمدينة نصر، وينظر إلى جواره حيث جلست هند وهي تضم طفلة أختها بعد أن قضوا أكثر من ستة أشهر لايغادرون منزل أمين، فإلتفتت له وسألته وهي تبتسم "مابك؟" فقال والسعادة تغمره وتعلو وجهه إبتسامة كبيرة "ألا تعرفين!، من المؤكد أني أحلم، أنا وأنتي معاً ومعنا طفلتنا الصغيرة سارة ياااااااااااااه أريد أن أصرخ، أطير، أغني لشدة سعدتي" ثم أسرع بسيارته فصاحت به "إنتبه" ثم أكملت وهي لا تصدق نفسها ولا تستطيع أن تزيل الإبتسامة التي تملأ وجهها "لدينا طفلة" ثم ضمتها وأمسكت بيدها الصغيرة وقبلتها ولولا أن شريف كان يقود السيارة لكان ضمهما معاً إليه...
مرت الأيام والشهور، ولم تترك هند أختها إلا قرب حلول الليل أو في بعض الأيام التي أرادت فيها أن تخرج هي وزوجها والطفلة كعائلة صغيرة وإن كانت إبنة أختها ولم تبخل هدير ولا زوجها عن إعطاء هذه السعادة الوقتية لهم، فكانوا يتركونهم ببعض الأيام وإن إشتاقت للطفلة في أي وقت من اليوم ولو حتى فجراً لم تتهاون هند في أن تجعلها تسمع صوتها عبر الهاتف....
الآن سارة وأخوتها أميرة وهادي قد بلغوا عامهم الثالث حين جاء شريف من عمله لمنزل أخيه كعادته مصطحب معه زوجته والطفلة سارة لكن هذه المرة يبدو عليه الإرتباك والقلق....
"مساء الخير" قال شريف للجميع ما أن فتح له أيمن باب الشقة، فأجاب أمين وهو جالس على الطاولة وأمامه مروحة بها عطل وبيده مفك يحاول إصلاحه "مساء النور أخي العزيز، لما تأخرت على الغداء اليوم" ثم أكمل وهو يضحك "عفوا لم نستطع إنتظارك أنت تعرف الأطفال" فرد شريف دون أن يرد إبتسامة أخيه والقلق لايزال بادياً على وجهه "لايهم أخي أنا لست جائع" ، عقد أمين حاجباه ما أن نظر لوجه أخيه القلق والمتردد، فترك مابيده وإلتفت له وسأله "شريف، مابك؟، يبدو أن هناك شىء" فتنهد شريف وهو ينظر لأخيه ثم إبتلع ريقه وقال "في الحقيقة،...في الحقيقة..هناك شىء,...أمر أريد أن أتحدث معك فيه لكن على إنفراد لو أمكن" فرفع أمين حاجبه بحيرة وتساؤل وهو ينظر لأخيه ثم هز رأسه بالإيجاب ووقف وأشار له أن يلحق به بالغرفة.
"ما الأمر ياشريف؟ وجهك يخبرني بأمر خطير" قال أمين بعد أن أغلق الباب هو يقف أمام أخيه ويطوي ذراعيه أمام صدره، فنظر له شريف وأخذ نفساً عميقاً وزفره وأجاب وهو ينظر لأخيه "في الحقيقى يا أخي....أنا عليا السفر إلى بريطانيا خلال شهر على الأكثر" فقطب أمين جبينه ثم إبتسم وقال وقد أراح ذراعيه "هذه أخبار عظيمة، لما أنت في هذه الحالة؟" فأكمل شريف وهو لايزال ينظر لأمين بنفس الطريقة أخذاً نفس أخر وزفره "نعم، لكن سأخذ هند بالطبع وسارة معي" فإتسعت عيني أمين وتبدلت ملامحه السعيدة وقال "ما الذي تقوله، لم نتفق على هذا ياشريف بالطبع لا" فأجاب شريف "أخي أنت قد جربت الأمر وقد رأيت كم أن الوضع حسن للجميع" فرد أمين بعصبية "هذا حين كانت إبنتي هنا بمصر، ونراها بصورة يومية وليس بالخارج يفصل بيننا بلاد, وهل تظن أن أم أيمن ستوافق...مستحيل؟" وهنا قرعت أم أيمن الباب ما أن سمعت صوت أمين المرتفع ودخلت هي وهند ثم قالت لهم "ما الأمر مابكم؟ ما الأمر يا أمين؟" فرد أمين بغضب وهو يشير لأخيه "يريد السفر بسارة لبريطانيا" فإتسعت عيني أم أيمن من المفاجأة ثم عقدت جبينها وراحت تهز رأسها بالنفي وصاحت "بالطبع لا، أخرج هذا الأمر من رأسك مستحيل" في حين وقفت هند تنظر لهم في حيرة خاصة بعد أن إنضم أمين لزوجته ويتحدث بغضب مع أخيه وفجأة......."عااااااااااااااااااء ماماااااااااااااااااااا".
"ما الأمر؟" قاطع صوت صراخ سارة ونداء أيمن لوالدته المناقشة الحادة بين الأربعة، فهرع الجميع خارج الغرفة ليجدوا سارة على الأرض والدماء تنزف من رأسها على الأرض وهنا صرخت هند التي وصلت أولا "ساااااارة" وهرع شريف نحوها وبلمح البصر كان قد حملها ونزل على السلم نحو سيارته وهند في أعقابه وبعدها أمين الذي لحق بها بعد أن طلب من زوجته البقاء مع الأطفال وركب الجميع سيارة شريف الذي إنطلق بها نحو المشفى بعد أن حملت هند الطفلة عنه.
كانت سارة قد سقطت من أعلى الكرسي أثنا لعبها مع إخوتها، وإرتطم رأسها بأحد الألعاب التي أحدثت قطع بفروة رأسها لكن حمداً لله لم يكن عميقاً....
"يا إلهي، حمداً لله" قالت هند لشريف وهي تسند رأسها على صدره وتضع يدها على قلبها، وهو يضمها له بعد أن طمئنهم الطبيب على سارة، لكنه طلب منهم بعض الأدوية مرتفعة الثمن لشرائها وعلى الفور أسرع شريف وآتى بها إليه، وساعة وكانت سارة نائمة بسلام على سرير المشفى....
"أمين، كيف حال إبنتي؟" سألت أم أيمن زوجها بلهفة على إبنتها بعد أن تركت الأطفال برعاية جارتهم، فأمسك أمين بيدها ليهدأها وقال بهدوء "هي بخير الآن، قد إهتم الأطباء بالأمر وشريف وهند لم يتركاها لحظة" فقالت "أريد أن أراها" فأومأ برأسه بالموافقة وإتجها نحو الغرفة...
قرع أمين ودخل هو وأسرعت أم أيمن نحو إبنتها النائمة بحضن هند أختها، ومسحت بيدها على خدها الرطب من دموعها ثم قبلتها على خدها وقالت لها وهي تبكي والدموع تنهمر من عيونها "سامحيني ياصغيرتي، قد غفلت عيني عنك لدقيقة ، سامحيني" وهنا إبتعدت هند قليلاً لتفسح المكان لأختها لتضمها إليها....
ظل أمين جالساً على الكرسي بعد أن دخلت هدير زوجته وراحت تقبل طفلتها وتضمها إليها، وهو يتأملها ويتأمل قلق اخوه وأخت زوجته على سارة، وبعد أكثر من أربع ساعات...
وقف أمين ونادى أمين زوجته ويبدو أنه يستعد للإنصراف، فإلتفتت ونظرت له، فقال "هيا بنا لنعود للمنزل لأجل الأطفال..قد تأخر الوقت" فقطبت أم أيمن جبينها وقالت له بضيق "ماذا؟ وسارة" فرد وقد إنتقل بنظره بين شريف وزوجته وسارة "شريف وهند معها سيرعناها جيداً، أما أطفالنا هناك وحدهم دعينا نعود وفي الصباح سنأتي إلى هنا" فقالت له "ولكن" فقاطعها بصرامة "هيا ياهدير أطفالنا وحدهم" وهنا أومأت برأسها الإيجاب ثم عادت وقبلت إبنتها وضمتها لها وهمست "لن أتأخر عليك" ثم أمسك أمين بيدها ووضعها بذراعه ثم قال لأخيه "سنذهب الآن" وتوقف عند الباب وعاد وطبع قبلة على خد إبنته ثم أخذ أم أيمن وخرج...
"أمين....أمين" نادت هدير زوجها عندما وجدته يقف بجوار سور الشرفة صامتاً، ويشرب من كوب الشاي الخاص به وهو ينظر للاشىء، فتنبه لها وأجاب "نعم يا أم أيمن" فسألته والشوق والقلق على إبنتها يفتك بقلبها "مابك؟ تفكر في سارة أليس كذلك؟" فأومأ برأسه بالإيجاب وقال وهو ينظر بعيداً عنها إلى الشارع " في سارة وشريف وهند وفي كل ماحدث اليوم" فعقدت هدير حاجبها ووقفت بجواره، ثم سألته وهي تضع يدها على كتفه "ماذا تقصد؟" فتنهد وإلتفت لها وقال "أقصد حادثة سارة وسفر شريف" فهزت رأسها بتساؤل إشارة لعدم فهمها الأمر، فتنهد أمين مرة أخرى وقال لها وهو يشير لأحد المقعدين الموجودين "تعالي ياأم أيمن إجلسي من فضلك" ووضع الكوب على السور وجلس هو الأخر، ثم أخذ نفساً عميقاً وزفره، ثم قال وهو ينظر بعينيها "أم أيمن قد رأيتي اليوم ماحدث، وكم كنت رافضاً لأمر سفر سارة مع شريف وهند بشكل جازم وحازم لكن.." فسألته هدير وقد بدأ الأمر يغضبها "ولكن ماذا يا أمين....لا تفكر حتى" فقاطعها "إسمعيني ولا تندفعي دون تفكير، اليوم الفتاة سقطت وجميعنا حولها انا وانتي واخوتها وشريف وهند أيضاً وماذا حدث هرع نحوها شريف وهند وفي ثوان أخذها بسيارته إلى أفضل مشفى وأتى بأغلى الأدوية التي إحتاجتها، وفي حين أنهم ساهران معها بالمشفى أنا وأنتي هنا" فأجابت هدير بغضب "أنا أردت أن" فقاطعها "لا ياهدير أنتي لايمكنك البقاء بجوارها وترك باقي الأطفال، لايمكنك وإن فعلتي فستكوني تعرضين أحدهم ليحدث له ماحدث معها" فنظرت له زوجته وقد بدأت الدموع تملأ عيونها فهدأت نبرته وقال بحنان وهو يمسك بيديها "عزيزتي أنا لا أقول لك هذا لأدينك أو أرمي باللوم عليك في شىء" وصمت قليلاً قبل أن يقول "أنا أتحدث عن الرعاية التي رأيتها اليوم لها مادياً ومعنوياً...كيف أسرعوا نحوها، لهفتهم وخوفهم عليها، والسيارة والمشفى والعلاج كل شىء ياعزيزتي لم أكن لأستطيع فعل هذا لها، لو لم يكن شريف موجود" ثم ترك يدها وتنهد ، ثم أشاح نظره بعيداً عنها وكأنه يفكر "فكرت في المستوى الإجتماعي التي ستعيشه سواء هنا أو عندما تسافر ستحظى بحياة أتمناها لباقي الأولاد وليس لها فقط" ثم أغمض عينيه وأخذ نفساً عميقاً كتمه قليلاً وكأنه يحاول أن يجعله يطفأ الآلم بصدره ثم زفره ببطء وفتح عينيه وعاد ونظر لزوجته وقال "الله أعلم بالألم الذي بقلبي لكن مصلحتها هي وأخوتها أولاً".
في الصباح أسرع أمين وزوجته نحو المشفى حيث قابلوا شريف على بابها وهو يحمل سارة على ذراعه التي تسند رأسها على كتفه، وهو يربت بيده على ظهرها، وبجواره تسير هند وهي تحمل حقيبة بها الأدوية ومتعلقات سارة...
"أخي" قال شريف وهو متفاجأ ثم أكمل "كنت سأتصل بك الطبيب كتب لها على خروج الآن بعد أن إطمئن على عدم وجود إرتجاج" فأومأ أمين برأسه بالإيجاب دليل على تفهمه الأمر وقال "حمداً لله هيا بنا" وتوجه الجميع نحو السيارة وحملت هند الطفلة وأعطتها لهدير التي ضمتها إليها وركبوا السيارة...
"أمين، نحن لن نتوجه لمنزلكم بباب الشعرية" قال شريف لأخيه وهو يشعر بالإحراج فقطب أمين جبينه وسأل شريف "ماذا تقصد؟" فأجاب شريف بسرعة "لا لا تفهمني بصورة خاطئة، الأمر أن الطبيب أكد على الراحة لذا أرى أنها بشقتنا ستحظى بها بصورة أفضل...هذا هو كل الموضوع" فأومأ أمين برأسه بالإيجاب وربت على يد أخيه فإبتسم شريف وإعتدل بجلسته ليقود السيارة وإنطلق بها...
"ماذا! حقاً؟...أنت موافق" قال شريف بدهشة وهو لايصدق مايخبره به أخوه عن موافقته لسفر سارة معهم، وقال أمين "نعم ياشريف أنا وهدير أيضاً لكن لأربع سنوات فقط حتى تنهي رسالة الدكتوراة خاصتك، بعدها ستعودون لمصر للأبد أتسمعني للأبد" فأومأ شريف برأسه بالإيجاب بسرعة وقد علت الإبتسامة وجهه ويكاد يقفز من الفرحة وقال "بالطبع بالطبع" ثم أسرع وضم أخوه وقبله وأسرع نحو زوجته يخبرها...
بعد أقل من شهر كانت سارة قد تعافت تماماً وإنتهى شريف من الأوراق والإجرءات اللازمة للسفروعندها حان وقت السفر
"قد حان وقت السفر أليس كذلك؟" قال أمين لأخيه وهو يقف أمامه ويمسك بيده حامل حقيبته الجرار، وباليد الأخرى حقيبة تحمل باليد وبجواره تقف هند وهي تمسك بيد سارة الصغيرة، فأومأ برأسه بالإيجاب وتنهد ثم نظر إلى سارة وقال لها "تعالى إلى والدك حبيبتي" فركضت سارة نحوه وإرتمت بين ذراعيه فضمها أمين بشدة إليه وهو يبكي ثم أخذتها هدير وضمتها إليها لفترة ليست بقليلة، وكذلك فعل اخوتها الصغار وبالنهاية نزل الجميع من شقة شريف وهند بمدينة نصر، وتوجه أمين وعائلته لباب الشعرية وشريف وأسرته الصغيرة إلى المطار.....
الفصل الثاني
(ترررررن، تررررن، تررررررن) – "ساااارة، ياسااااارة" نادت هند بصوت مرتفع إبنتها سارة الغارقة في نوم عميق حتى أن منبهها لم يستطع إيقظها، فجاءت إليها...
"آآآآآه" تمتمت سارة وهي تتثائب وتشد ذراعيها وهي جالسة على سريرها لتستيقظ، وبعد قليل نجح الأمر وفتحت عيونها الواسعة العسلية اللون كلون شعرها، ونظرت حولها إلى غرفتها الواسعة التي يغطيها اللون الأبيض كما تحب سواء الأثاث أو الشراشف والستائر خاصة عندما تتخلل الغرفة أشعة الشمس الدافئة قليلاً، والتي قلما تطل عليهم خلال السنة حيث يكسو الثلج البلاد طوال العام تقريباً..... "أوووه الثامنة" صاحت هالة متفاجئة ما أن رأت الوقت بمنبهها، ثم قفزت من على سريرها نحو خزانتها..
"صباح الخيرأبي، صباح الخير أمي" قالت سارة لشريف وهند وهي تطبع قبلتها على خد كلاً منهما، وهما يجلسان أمام طاولة الطعام، فرد عليها شريف "صباح الخير صغيرتي، هل نمت جيداً؟" وقبل أن تجيب سارة ردت والدتها وهي تنظر لها بضيق وكأن الأمر يزعجها "بالطبع لا، فقد نامت بوقت متأخر جداً أمس ولا تهتم بصحتها منذ فترة" فقالت سارة وهي تبرر الأمر "يا أمي كان عليا إنهاء البحث المتعلق بمادة التاريخ لأقدمه اليوم" فقالت هند "وكأنك لم تعطيه الوقت الكافي ، فهذا البحث لأكثر من شهر وأنتي تعدين له ولم تتركي وسيلة سواء بالصور أو الخرائط والمستندات إلا ودعمتيه به ولم أقل شىء بل شجعتك، لكن حتى وقت نومك" ثم عقدت حاجباها وصاحت بصوت غاضب قليلاً لكنه منخفض "هذه صحتك" فشعرت سارة بغضب والدتها وقالت لها بدلال وهي تبتسم وتربت على كتفها "أمييييييي، أنتي تعرفين إبنتك تريد أن يكون كل ماتقدمه على أكمل وجه، لأشرفك أنتي وأبي بل ووطني أيضاً" ثم أكملت وقد أبعدت يدها عن والدتها وكأنها وجدت حجتها المطلوبة "وأنتم، ألم تنشأني على أني صورة لبلدي، ولكل المصريين هنا، وعليا أن أكون قدر المسئولية....أليس كذلك مثلك أنتي وأبي؟" فنظر شريف وهند لبعضهما البعض ثم إبتسم شريف وأومأ برأسه بالإيجاب وردت هند "بالطبع من يستطيع الوقوف أمام الأنسة سارة مناصرة الأقليات والمدافعة عنهم بأشهر وأقوى منظمات حقوق الإنسان" فعلت ضحكت سارة رداً على كلام والدتها ثم تلاشت ضحكتها تدريجياً وصمتت وهي تنظر للأرض وكأنها تذكرت شىء، فعقدت والدتها جبينها وقالت وهي تضع يدها على كتف إبنتها لتجعلها ترفع نظرها لها "مابك ياسارة؟ هل هناك شىء؟" فهزت سارة رأسها بالنفي وأجابت "لا يا أمي أنا بخير فقط عندما ذكرتي أني أكثر المدفاعين عن الأقليات فكرت أليس هذا لأني واحدة منهم؟!، اليس سبب ذلك لشعوري بإحساس كل عربي هنا والصعوبات التي يلاقيها والتمييز الذي ربما لايكون واضحاً لكنه موجود وبقوة خاصة بعد أحداث 11 ستمبر" فصمت شريف وهند قليلاً وكأنهما يفكران في الأمر وفي حياتهما طوال عشرون عاماً منذ أن غادرا مصر، وهم يظنون أنهم سيعودون بعد أربع سنوات على الأكثر، لكن ما أن أنهى شريف رسالة الدكتوراة الخاصة به حتى عُرض عليه عمل لايمكن أن يرفضه، وهند وافقته حينها حتى أمين لم يستطع الرفض والوقوف أمام أخيه في الوصول لهذا المنصب المرموق والحصول على حياة رائعة.....
"هل إشتقت لوالديك وأخوتك بمصر؟" سألت هند إبنتها فتنهدت سارة وهي تنظر لها وقالت "في الحقيقة أنا بالكاد أتذكرهم لكن الشوق والحنان الذي بصوت أبي وأمي عبر الهاتف وأصوات إخوتي المرحة ومذاحهم معاً، حقاً أشعرني الأمر بالحنين والغيرة لأن أكون معهم وتخيلت كم سيكون الأمر رائعاً وأنا لدية خمسة أخوة يخافون عليا ويحتوني في بلدي وبين مصريين مثلي، فعندما كنتي تخبريني وتقصين لي قصص عن شهامة المصريين وأخلاقهم" ثم ضحكت وبعينيها حنين وقالت "أتذكرين عندما أخبرتني انهم لايقبلون أن يمس أحد فتاة بكلمة أو بنظرة تجرحها مما يجعلها تسير مرفوعة الرأس تشعر بالأمان وكأن كل من حولها هم درعها الحامي فإذا ماتجرأ أحدهما وتطاول عليها ولو بكلمة حتى يهب الجميع لنجدتها رجال ونساء" ثم أكملت "وعندم كنت أشاهد الأفلام المصرية بالأبيض واسود ، إسماعيل ياسين وأحمد مظهر" ثم نظرت لهم وقالت بحماس "أتعرفين أكثر ماأعجبني هو عسكري الدورية، الذي لم يكن يترك أي إنسان بمنطقته حتى يعرف ماذا يفعل، ولماذا، وسبب وجوده، وما أن يطمئن حتى يبتسم ويتركه أو حتى يمد يده معه ويساعده" ثم تنهدت وهي تتمتم وقد سرحت ببصرها للاشىء "آآآه يا أمي"....
"حسناً بمناسبة الأهل، يوسف سيصل اليوم" قال شريف مقاطعاً الصمت الذي حل عليهم فرفعت سارة عيونها متفاجأة والسعادة تقفز فيهما وقالت وقد علت الفرحة وجهها وبدأت ترسم إبتسامة "يوسف!.....يوسف من؟" فضحكت والدتها وقالت "ألا تعرفين يوسف من؟!...إبن خالك" وغمزت لها وقالت "وخطيبك" فشعرت سارة بالخجل وإتسعت إبتسامتها لتغطي وجهها وعضت على شفتها السفلى، فضحكت هند بصوت مرتفع وكذلك فعل شريف الذي أكمل بعدها وهو يشبك كفيه ويسند بمرفقيه على طاولة الطعام التي أمامه "يوسف قد أوشك على الإنتهاء من رسالة الدكتوراة الخاصة به لذي فقد قطع أجازته لمصر لينتهي منها خلال بضعة أشهر على الأكثر، وسيعود بعدها لمصر على ما أعتقد" ثم قال بإبتسامة هادئة وهو يتبادل النظرات مع هند ثم لإبنته وقال "ومن المؤكد سيقدم بعدها على الزواج وحينها ربما" ثم نظر لزوجته وكأنه يتأكد من قرارهم معاً "ربما نعود إلى مصر كلنا" وهنا تهللت سارة وصاحت بفرح "حقاً يا أبي" فأومأ لها بالإيجاب برأسه، فقفزت من على كرسيها وتوجهت نحوه وطبعت قبلة على وجهه، فضحك هو وهند عليها وهنا رأت ساعة والدها وهي تشير للثامنة والنصف وخمس دقائق فصاحت "عليّ الذهاب" وخطفت حقيبتها وكتبها وطارت نحو الجامعة....
"يا إلهي أنتي حقاً مدهشة ياسارة...إمتياز A+" قالت ناتلي لسارة وهي تعلق على الدرجة التي حصلت عليها نتيجة لبحثها المتميز خاصة وقد أثنى أستاذهم الجامعي عليها أيضاً أمام الجميع
كانت سارة وناتلي يقفون معاً هي وأصدقائهم محمود وتشارل وإريك فضحك محمود وقال "أنت فخر للعرب جميعاً يا أختي العزيزة" فضحكت سارة على كلامهم وهي الأخرى تشعر بالسعادة لنجاحها على هذا النحو المشرف وردت عليهم "من جد وجد ومن زرع حصد يا أخوتي هكذا نقول بمصر" فضحك الجميع بسعادة وهم يشعرون بالفرح لأجلها لكن... "آه مصر لازلتي تصدقين تلك الكلمات المتعلقة ببلدك رغم أنك لم تعيشي فيها كثيراً"...
"لازلتي تكررين كلام المصريين الذي لا فائدة منه هنا هههههه" قال ريتشارد مستهزءاً بكلمات سارة ثم وضع يده على فمهه وكأنه قد نسى شىء "آآووه أعذريني" ثم أكمل بإبتسامة مستهترة بها "نسيت أن المصريين لايجيدون سوى الثرثرة طوال الوقت ليس إلا" فقطبت سارة حاجباها وقالت له بغضب "واحدة من هؤلاء المصريين الذي تستهزء بهم قد حصلت على A+ (الأولى) في حين أنك بالكاد حصلت على C(الدرجة التي تليها الرسوب)" فرد عليها "هذا البحث أنا لم أهتم به، ولم ألقى حتى نظرة عليه ولو فعلت ماكنتي قد حظيت بمثل هذه الدرجة أبداً" فرفعت سارة إحدة حاجبيها وتوجهت نحوه وقالت بتحدٍ واضح "إذاً فلنذهب للدكتور ونسأله موضوع بحث أخر لنا نحن الإثنان ولنرى عبقريتك ريتشارد" فقطب جبينه وقال "ماذا؟! ولكـ" وقبل أن يكمل قاطعه صوت "لا تغضب قطة شرقية لئلا تمزقك بمخالبها ثم تعود وترميك لقطيع الفهود لتتأكد من القضاء عليك"...
إلتفت الجميع نحو مصدر الصوت الموجه لهم مقاطعاً الحديث الشائك بين سارة وريتشارد وهنا علّت الإبتسامة وجه سارة وصاحت "يوسف" ثم أسرعت وقفزت من مكانها نحوه فإستقبلها هو بين ذراعيه وهو الأخر السعادة تملأ وجهه وقلبه لرؤيتها وهي تقفز من مكانها ثم إبتعدت عنه وقالت "أخيراً أتيت" فضمها مرة أخرى له وقال "نعم آتيت يامجنونة" وما أن إبتعدت عنه وهدأت فرحتها حتى قالت له "متى وصلت؟" فأجاب "في الصباح" ثم أكمل وهو يمسك يدها "لكن دعينا نرى أمر هذا الذي تجرأ وأغضب حبيبتي" ثم ساروا نحو المجموعة..
يوسف إبن خال سارة وخطيبها الذي يعيش بمصر لكن ما أن حصل على بكالوريوس العلوم قسم جيولوجيا بتقدير إمتياز حتى أسرع وأكمل الدراسات العليا، ثم قدم للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة هارفارد ومع أنه لم يرى سارة لأكثر من سبعة عشر عاماً إلا أنه ما أن وقعت عيناه عليها عندما جاء لبريطانيا وزار خالته هند حتى دق لها قلبه وشعر أن هذه هي ملكة قلبه ولم يتردد للحظة في طلبها من شريف، خاصة عندما قرأ مشاعرها نحوه بعينيها كذلك أسرع وطلب يدها من زوج خالته أمين بمصر وهكذا أصبح بالفعل خطيبها وقد جاء لأجل المناقشة النهائية لرسالة الدكتوراة
سار يوسف وهو يرتدي قميصه الأبيض وبنطال البدلة الأسود بخطى ثابتة ممسك بجاكت بدله وحقيبة أوراقه الجلدية، ما أن أنهى مقابلته مع المشرف على رسالته وراح يبحث عن سارة بالجامعة هنا وهناك حتى رأها وما أن لمحها وتوجه نحوها حتى لاحظ العداء الظاهر للجميع بينها وبين ريتشارد حتى أنهم لم ينتبهوا لمجيئوا فوقف بعيداً عنهم قليلاً يتابع الحوار
كان شريف شاب طويل عريض المنكبين أسمر اللون كمعظم العرب وخاصة المصريين ذو عيني بني غامق وشعر حالك السواد قصير وللوهلة الأولى عليك أن تخشاه فمع أن لديه عقل نابغة في العلوم لكن قوته تظهر بوضوح بذراعيه القويتين....
"تعالي معي" قال يوسف وهو يمسك بيد سارة وإتجهوا نحو المجموعة وهنا وقف أمام ريتشارد بتحد وقد طوى ذراعيه أمام صدره وسأله "لم ترد سيد ريتشارد عن سؤال الأنسة" فقطب جبينه وقال بإرتباك واضح وهو يحاول الهروب من الأمر "أي أي إقتراح، أنا لا أفضل الدراسة والبحث عامة فلماذا أشغل بالي، بالطبع لا، أنا ذاهب" وهمّ ليمضي فأوقفه يوسف ممسكاً بذراعه بحزم فإلتفت له ريتشارد وقال له بدهشة "ماهذا؟! ماذا تريد؟" فترك يوسف ذراعه وجاء ووقف أمامه مباشرة وقال له وهو ينظر بعينيه محذراً "إذن مادمت لا تريد الدراسة فإياك أن تقترب من هذه الفتاة وإلا...." إقترب من وجهه أكثر وقطب حاجباه بغضب وقال وهو يربت على ذقنه بقوة من أسفل جعلته يشعر وكأن فكه يكاد يتهشم "حينها سأفهم الأمور بصورة خاطئة" فرفع ريتشارد يده وفرك مكان ضربة يوسف له وقال "ها هي عند إشبع بها" وتركهم ومضى فصاحت سارة غاضبة من طريقة كلامه عليها "ياااااااهـ" فأمسك يوسف بيدها ليوقفها وقال لها "قطتي إهدئي إنه فأر يحاول الفرار ليس إلا، لا تهتمي له" ثم قال وهو يهمس لها بحنان "هل سنقضي اليوم نلاحقه، ألم تشتاقي لي ولو قليلاً" فإبتسمت سارة وشعرت بالخجل، وقالت وهي تنظر للأرض تارة وله تارة "بالطبع إشتقت لك" فرد عليها وقال "يا إلهي إشتقت لتلك العيون العسلية التي تلمع عند النظر إلي فتشعرني بأني الرجل الوحيد على الأرض وتنقلني لأجمل مكان بهذه الدنيا حتى تغمرني بسعادة لا أستطيع تحملها" وهنا سمعا كلاهما صوت ناتلي مقاطعاً تتنحنح ثم قالت "أعتقد أنه علينا المغادرة...إلى اللقاء" ثم ذهبت ومعها أصدقائها الثلاثة...
"كيف حالك حبيبتي؟، إشتقت لك" سأل يوسف سار وهو يسير بجوارها ويمسكان بيد بعضهما البعض فأجابت "وأنا أيضاً...يا إلهي لا أصدق أنك هنا" فنظر لها وإبتسم ثم قال "أنا هنا، ويدي تحضن يدك ألا تشعرين" فشعرت بالإحراج مرة أخرى وسحبت يدها ثم ضربته على كتفه فضحك عليها ضحكة عالية عندما وجد الحمرة قد غطت وجهها ثم قال "أنا جائع دعينا نأكل لم أتناول شىء منذ طعام الطائرة باكراً" فأومأت له بالإيجاب وسارا نحو الكافتريا ليشتروا بعض الطعام وأثناء هذا سألها "كيف حال خالتي هند وعمي شريف؟" فأجابت وهي تبتسم وتنظر أمامها "كلاهما بخير حمداً لله" وهنا وصلوا للكافتريا وسألها عما تريد ثم تركها وذهب لشراء الطعام حين رن هاتفها.
"ألو ...نعم أنا سارة.......ماذا؟!" قالت سارة بذهول وقد تبدلت مشاعر السعادة التي كانت تغمرها وظلت بعد إنتهاء المكالمة لا تستطيع الحركة ولا حتى الكلام فقط عيناها متسعة وتنظر هنا وهناك وأنفاسها تتسارع، وهنا شعر يوسف بالذعر عندما رأها على هذا النحو ندما جاء، ووضع الطعام جانباً وصاح بها "سارة ، سارة ، مابك؟!" فنظرت له ولم تجيب وهي تحرك شفتيها ببطء وتحاول أن تبتلع ريقها لتخرج الكلمات وتتكلم، فأمسك بذراعها وجعلها تجلس ثم فتح قنينة ماء وأعطاها فشربت بعض منها ثم قالت "أمي وأبي، إنـ إنزلقت سيارتهم على الطريق وإنقلبت.....وهم في حالة خطرة" فشهق يوسف وإنتقلت حالتها له وسألها "أيهما" فأجابت وهي لاتستطيع منع رعشة بدأت بجسدها "كلاهما"......
الفصل الثالث
وقفت سارة بردائها الأسود الذي يصل لبعد ركبتها والدموع تنهمر من عيونها وهي تستقبل المعزين بقاعة قام يوسف بحجزها، وهي لاتصدق أن الأمر حقاً حدث ولا تستطيع أن تتقبل أن كلاهما قد تركاها هكذا في لمح البصر في لحظة، والداها التي عرفتهم طوال حياتها وغمروها بحنانهم وحبهم لها، بإستثناء يوسف كانوا هما كل حياتها وراحت تتذكر مواقفها معهم والسعادة التي كانت تشعر بها بينهم، لم يحتدوا عليها يوماً لم يلوموها يوماً لكن علموها كل مايلزم دون لحظة ألم أو تهديد أو ضرب فقط النقاش والحديث، الحجة والبرهان، الحق والحقيقة ، المساواة جميعها مبادىء نشأت عليها وعاشتها معهم وهنا تذكرت أخر مرة رأتهم فيها على الإفطار، عندما راحوا يضحكون ويتناقشون، يومها لاحظت أمها أنها نامت بوقت متأخر فذهبت لتحضير الطعام وحدها وكأنها كانت تدللها لأخر مرة، ثم وضعت يدها بين راحتيها وإجهشت في البكاء....
أخيراً إنتهت مراسم العزاء، وعادت سارة ويوسف إلى منزل والديها، بالطبع لم يتركها يوسف لحظة خاصة، وأن ليس لديها أي أحد سواه بهذه الغربة...
"حبيبتي أرجوكي أصعدي لغرفتك لترتاحي قليلاً" قال يوسف وهو يمسك يدها بعد أن جلس بالقرب منها حينما رأها تجلي بالصالون كجثة دون روح، تنظر للا شىء، فتنبهت له وهمست "لا ، أريد أن أتحدث معك" فأسرع وجلس أمامها وقال "بالطبع، بالطبع حبيبتي ما الأمر؟" فنظرت له ولا تزال أثار الدموع على وجهها الشاحب وقالت "أريد أن أعود إلى مصر، لا أريد أن أبقى هنا، قد كرهت هذه البلاد الذي أخذت والديا مني" فرد عليها "نسافر!...بالطبع بالطبع حبيبتي لكن دعينا ننهي دراستنا وأعدك سنسافر بعدها مباشرة" فقالت وكأنها قد نست "آه دراستنا" ثم أغمضت عينيها وفتحتهما وقالت "حسناً، شهرين على الأكثر وسأنتهي أنا من دراستي الجامعية وأنت من رسالتك أليس كذلك؟" فأومأ برأسه بالإيجاب فقالت "حسناً إذن فلنعد بعد شهرين، لكن هناك طلب أخر" فرد عليها "بالطبع بالطبع" فقالت "عندما نتزوج أريد أن أسكن بالقرب من أهلي بالقاهرة، بحي باب الشعرية" فقال لها بدهشة "ماذا؟! لكن هذا أحد الأحياء العشوائية ولن تستطيعي العيش فيه" فأجابت "لما؟ لأنه حي فقير؟! نحن من نغير المكان وليس العكس" ثم نظرت له وقالت "أرجوك حبيبي" فنظر لها قليلاً ثم تنهد وإستسلم للأمر "حسناً كما تريدين، عامةً منزل أبي وأمي موجود ولديهم شقة بالدور الثالث فلتكن لنا" فإبتسمت له ثم تذكرت والديها وإنسابت الدموع على خديها مرة أخرى وأسندت رأسها على كته وراحت تبكي وهو يربت على ظهرها برفق....
مر الشهرين ببطء رهيب لم تشعر به سارة طوال الشعرين عاماً، كان كل شىء بمنزلها يذكرها بوالديها، بضحكاتهم الدائمة ومساعدتهم لها ، هنا والدتها كانت تغني لها وهي تدربها على التعلم وهنا أمام التلفاز أخذها والدها يعلمها كيف تنتبه للأحاديث وتستطيع أن تستشف الحقائق، وهنا وهنا.....
"ياإلهي" تمت سارة بآلم وهي تقف أمام مكتب أبيها، فإنتبه لها يوسف الجالس فيه وأسرع نحوها "سارة مابك؟ هل أنتي بخير؟" فأومأت برأسها بالإيجاب وتنهدت ثم قالت "فقط الذكريات هنا تقتلني، متى سنعود؟" فصمت قليلاً وأغمض عينيه وقد شعر بآلامها ثم جاء نحوها وأمسك بيديها وقال "الأسبوع القادم، قد حجزت تذاكر الطيران والميعاد الأحد القادم" فإبتسمت وقالت "حقاً" فأجاب "نعم قد حصلت على درجة الدكتوراة وأنتي إنتهيت من دراستك فلايوجد داعي للبقاء هنا" فأجابت بفرحة يشوبها بعض الحزن "جيد، جيد جداً" فإبتسم هو وقال "أنتي ماعدتي تتحملين الوجود هنا، وأنا ماعدت أحتمل البعد عنك أكثر، لذا دعينا نعود ونتزوج بأسرع وقت" ولأول مرة منذ أكثر من شهرين ضحكت سارة من قلبها بخجل ثم قالت له "بهذه السرعة!" فرد عليها بدهشة "سرعة، أنت تمذحين أليس كذلك، حفل خطوبتنا كانت منذ خمس سنوات، وخلال أخر شهرين كدت أفقد عقلي" فشهقت سارة بدهشة وقالت بغيظ مصطنع "يالك من..." ثم ضحكت وضحك هو أيضاً وتلاقت أعينهم معاً...
"وصول الطائرة رقم 5047 من مطار ؟؟؟؟؟؟ بلندن" علا صوت مضيفة الطيران بمطار القاهرة الدولي فأسرع أمين وزوجته وأبنائه الخمس نحو بوابة الوصول التي أشارت له المضيفة....
وقفت سارة أعلى سلم الطائرة تنظر نحو الساحة الكبيرة التي هبطت بها الطائرة في الصباح الباكر، وعيناها تلمعان بفرحة، تتطلع بشوق نحو بوابة الوصول التي منها سترى مصر وأهلها، والديها واخوتها الخمس، وهنا وصل يوسف ووضع يده خلف ظهرها ليحثها على النزول وقد كان...
وقف الجميع يضطلع نحو ظهور سارة ويوسف أمام بوابة الوصول، أمين وزوجته يكادان يفقدان عقلهما من شوقهم لإبنتهم وأبنائهم الخمس أيمن وعادل وهشام وهادي وأميرة يضطلعان لرؤية أختهم التي لم يروها منذ عشرين عاماً...
أخيراً ظهرت سارة وبجورها يوسف يسيران معاً ويوسف يدفع العربة المحملة بحقائبهم أمامه، وما أن رأى أمين وخالته حتى أشار لها برأسه إليهم فإلتفتت نحوهم وهي تضحك
"إبنتي هنا" صاح أمين وهو يشير لسارة التي تركت يوسف وأسرعت نحوهم، وما أن عبرت السياج حتى تلقاها والدها بين ذراعيه وراح يضمها إليه وهو يبكي ويقول "إبنتي، إبنتي، آآآه " ثم أبعدها عنه قليلاً ونظر لوجهها يتأملها وقال "عشرون عاماً، كبرتي فيهم وأصبحت فتاة جميلة للغاية، ياإلهي" وهنا تدخلت أمها والتي كانت تستند على ذراع أميرة فهي بالكاد تستطيع المشي لألام بظهرها لكن لايمكنها ألا تستقبل إبنتها التي لم تراها منذ عشرون عاماًُ...
"إبتعد قليلاً، انا أيضاً مشتاقة لها" صاحت هدير أم سارة وهي تأخذها من بين ذراعيه وتضمها لصدرها "إبنتي ، إبنتي، على عيني تركتك على عيني" ثم إجهشت في البكاء وسارة تربت على ظهرها تحاول تهدئتها قليلاً وإبتعدت عنها لكنها عادت وقبلتها مرة أخرى وضمتها بقوة إليها....
إحتاج الوقت لأكثر من ساعة ونصف وسارة تستقبل ترحيب وشوق عائلتها لها والديها وأخوتها الذين كانوا في ذهول وهم يرونها أخيراً أمامهم..
"يا إلهي أنتي جميلة للغاية لاتوفيك الصور حقك حقاً" قالت أميرة لأختها التوأم فضحكت سارة وقالت لها "على ماأذكر أننا توأم" ثم نظرت لشعر أختها وقالت "ولايفرق بين وجهينا سوى أن شعري لونه أفتح قليلاً" فضحكت أميرة ضحكة عالية "وقالت حسناً أختي دعينا نؤجل هذه المناقشة عندما نعود للمنزل ونقف أمام المرآة، أما الآن دعيني أعرفك" ثم نادت طفلان وقالت لأختها وهي تشير لهم "هنّا ونادر أطفالي" فإتسعت عيني سارة بدهشة وقالت "أطفالك!" فأومأت برأسها بالإيجاب وهي تضحك وقالت "لما الدهشة" فردت سارة "لاتوجد دهشة لكنهم تقريباً بعمر خمس سنوات" فردت بهمس لها "قد تزوجت صغيرة ليس إلا" وهنا قال يوسف "حسناً أعلم مدى شوقكم لكنها ستكون معنا بالمنزل أيضاً" ثم أشار بيده لصالة الوصول وقال "قد ذهب الجميع" فأومأ له أمين بالموافقة وقال له "حسناً قد إستأجرت حافلة لتقلنا هيا بنا والداك ينتظران بسيارتهم بالخارج أيضاً هيا" ثم سار الجميع نحو باب الخروج....
مائدة كبيرة معدة أمام الجميع بها أشهى المأكولات المصرية والتي قامت بإعدادها أميرة ومعها أمها ووالدة يوسف وتناول الجميع غدائهم بعد أن أخذ كلاً من يوسف وسارة قسطاً من النوم، وما أن إنتهوا من تناول الطعام حتى أسرعت أميرة ووقفت تضب الأطباق وراحت والدة سارة وحماتها تساعدها قليلاً برصهم فوق بعض وهمّت سارة لمساعدتهم إلا أن الجميع وعلى رأسهم أميرة رفضت الأمر..
"إجلسي ماذا تفعلين، أنتي اليوم صاحبة العيد" قالت أميرة تماذح أختها ثم أسرعت وأخذت أحد أكوام الأطباق ووضعتها بالمطبخ وعادت مرة أخرى وأخذت غيره وغيره حتى نقلتهم جميعاً إلى هناك وعادت لتلملم بقيا الطعام من على الطاولة...
"أميرة ماذا تفعلين؟!" سألت سارة أختها بدهشة بعد أن لحقت بها بالمطبخ ووجدتها تقوم بغسل الصحون فإلتفتت لها أميرة وقالت "ماذا أفعل! كما ترين" ثم أكملت وهي تمذح "أم أن ببريطانيا لايغسلونها" فضحكت سارة وقالت "بالطبع يغسلونها" ثم قالت وهي تنظر لأكوام الأواني " لكن ليست بهذه الكمية على الأقل يجب أن تكون هناك مساعدة فأنتي من ضبيتي الطاولة وحدك تقريباً وانتي من أعددت الشاي وأتيتي بالتحلية وأنتي من يغسلها الآن" فأجابتها "وما المشكلة ؟" فأجابت سارة وقد إزدادت دهشتها من أختها "المشكلة ألا ترينها حقاً؟! لما لاتحصلين على مساعدة، حتى وأمي مريضة نحن ستة إخوة لو كل واحد فينا قام بشىء لإنتهى الأمر لكن ها أنتي منذ أن آتيت لم أحظى بفرصة للحديث معك سوى التعارف بالمطار أما باقي الوقت فقد قضيتيه هنا،...ها الساعة الآن قد قاربت السادسة وأنتي هنا بالمطبخ طوال الوقت" فضحكت أميرة وهي لاتزال تضع بعض الصابون على أحد الصواني وتفركها وقالت "أختي أنتي مشتاقة إليّ، يا إلهي كم كنت أنتظر وجودك إلى جواري" فإبتسمت سارة وقالت "بالطبع مشتاقة لك، لكن حقاً ما أسأل عنه لما لايساعدك أحد في كل هذا؟" فأجبت أميرة وهي تضع الصينية مكانها "لأنه كما أخبرتك أمي مريضة ولا تقوى على الوقوف وأبي وأخوتي رجال لن يفعلوا شىء بالطبع، فماذا علي أن أفعل أتركهم دون طعام" فإتسعت عيني سارة بذهول وقالت "رجال؟! هل هذا هو العذر؟" فأجابت أميرة "بالطبع هنا هذا عذر كافي" فإتسعت عيني سارة بذهول من كلام أختها فضحكت عليها وقالت وهي تربت على يدها "لاعليك أختي الآمر ليس بهذا السوء فمادام الله أعطاني الصحة لأقوم هذا فلا ضرر وها أنتي أتيتي" فقالت سارة بقليل من الغضب "صحة! صحة مثل تلك التي كانت لأمي وتم القضاء عليها قبل أن تكمل حتى عامها الخمسين، وماذا تقصدين بأني قد أتيت؟" ونظرت لأميرة التي تفاجئت من كلام أختها وأكملت "لأحل محلك هنا لخدمة الجميع؟" فإلتزمت أميرة بالصمت ولم ترد حتى قاطعهما صوت أيمن "أمييييييييييرة إجلبي الماء" فنظرت لها سارة بتحدي ورفعت يدها وكأنها تشير لها لتكمل الأمر وتجلب الماء ففعلت أميرة وأخذت كوب وملأته وقبل أن تذهب سألت بقلق "سارة، قلتي كم الساعة؟" فأجابت "السادسة وعشر دقائق" فصاحت أميرة وهي تعطيها كوب الماء "يا إلهي صلاح على وصول عليا العودة قبله" ثم خرجت وراحت تلملم حاجتها حقيبة يدها والحقيبة الخاصة بالأطفال وحقائب الروضة الخاصة بهم وترتدي حذائها وتساعد أطفالها في إرتداء جواكتهم وقالت "سارة عفوا لكن شقتي في حالة فوضى تامة وعليا الذهاب لأرتبها وأعد الطعام لزوجي" ثم جذبتها وضمتها لها وهي تقول "سأتي غداً بعد الإنتهاء من عملي" ثم قبلتها وإلتفتت لأطفالها وقالت وهي تمسك بأيديهم "هيا نادر هيا ياهيّا" وذهبت....
وقفت سارة في ذهول وهي تنظر إلى أختها تسرع لتلحق بموعد عودتها للمنزل، وكأنها تعرضت لصعقة كهربائية جعلتها تقفز من مكانها، وراحت تضب أغراضها هي وأطفالها وهي تسرع الخطى وتكاد تجري لكن وجود الجمع حولها جعلها تؤجل التفكير بالأمر والإهتمام بكل الذي يرحبون بها...
"أمي" نادت سارة أمها التي جلست على سريرها الحديدي تمدد رجليها بعد ذهاب الجميع وحتى أمين ويوسف قد خرجوا قليلاً أيضاً، فإلتفتت لها أمها وهي تبتسم وقالت "سارة، تعالي إلى جانبي ياإبنتي لم أشبع منك بعد" فإبتسمت سارة وجاءت وجلست إلى جوارها فضمتها أمها بقوة وراحت تقبلها وبالنهاية أسندت سارة رأسها على فخذ أمها وراحت والدتها تمسح على شعرها..
"أمي، مالذي يؤلمك؟" سألت سارة أمها وظهر رأسها لها ولا ترى وجه والدتها وهي نائمة فأجابت والدتها وهي لاتزال تمسح شعر إبنتها بيدها وترتب خصلاته "كل جسدي يؤلمني يا إبنتي" فسألتها بدهشة وقد أدرات رأسها قليلاً نحو والدتها "كله! لما ياأمي ما السبب؟" فأعادت أمها رأسها لوضعها الأول وقالت "الدوالي، الضغط، السكر، الروماتيزم أسباب وأدوية كثيرة سئمت عدها" فقالت سارة "لما ياأمي، على ماأذكر أنك أكبر من أمي هنـ...أقصد خالتي بسنة واحدة وهي لم تكن تشكو من كل هذا" فتنهدت هدير وقالت وهي لاتزال تمسح شعر إبنتها وتفكر "هند لم تنجب ست أطفال ولم تربي خمسة بينهم أربع رجال...لا أكذب إن قلت هدوا حيلي" فسألتها سارة بدهشة "وأبي لم يكن يساعدك" فأجابت والدتها "لا أبوكي ولا إخوتك، هنا الرجل رجل، وأعمال المنزل كله على المرأة" فإتسعت عيني سارة بدهشة حتى أنها ضحكت من الأمر ورفعت رأسها وقالت "إذن الأعمال حُسمت وفقاً للجنس أليس كذلك؟" فإتسعت عيني أمها متفاجأة من طريقة كلامها، فإعتدلت سارة وصمتت قليلاً ثم تنهدت وقالت وهي تحاول أن توضح قصدها "أمي أنا لا أقصد شىء العمل ومساعدة الأخرين شىء جيد لكن المشاركة أفضل لم نكن نترك المكان غير نظيف أو مرتب لكن لم تكن أعمال المنزل حكراً على أحد، إن كان عمي مشغول كنا نقوم أنا وخالتي بالأمر، وان كانت خالتي مشغولة، كنت أنا وأبي وإن كنت أنا، كان أبي وأمي وفي معظم الأوقات كنا نتشارك جميعاً فننهي الأمر سريعاً، وكنا نحسبها فرصة نحظى فيها بوجودنا معاً، وكما ترين كنا جميعاً بصحة جيدة ولم يشكو أي منا من أي مرض" فتنهدت أمها وأمسكت بيدها وجعلتها تعود وتنام كما كانت ثم قالت "عادات وتقاليد يا إبنتي" فضحكت سارة ضحكة تهكمية وقالت "يالها من عادات وتقاليد بالية أمي" ثم مرت فترت صمت قصيرة قبل أن تسألها "وماذا عن أميرة، هل هي أيضاً تقوم بكل شىء؟" فأجابت والدتها "أميرة!، أميرة هذه هي يدي ورجلي وأختي وصديقتي وإبنتي وكل شىء، فمنذ أن مرضت وهي ما أن تنتهي من عملها حتى تأتي وتقوم بكافة أعمال المنزل هنا من غسيل وتنظيف ثم تطهو الطعام وتعود لمنزلها وتقوم بكل الأعباء المنزلية ناك أيضاً ثم تأتي بالأطفال من المدارس وتذاكر لهم وتهتم بنظافتهم وكل إحتياجاتهم الشخصية حتى يناموا ويعود زوجها لها فتهتم بشؤونه هو الأخر" فضحكت سارة مرة أخرى ضحكة بالكاد تخرج وقالت "وبالطبع تنام قتيلة بالمساء" ثم تنبهت لكلام والدتها وقالت بدهشة "أميرة تعمل؟! حقاً" فأجابت هدير بفخر "بالطبع فعلى الرغم من أن والدك لم يجعلها تكمل تعليمها، إلا أنها لم تستسلم وراحت تقرأ وتعلم نفسها، أتعرفين هذا الإختراع الجديد الكمبيوتر والبموبيوتر وهذه الأشياء تعلمتها من الكتب وأتقنت الإنجليزي بنفس الطريقة حتى حصلت على مركز مرموق بأحدي الشركات الكبرى، وتحصل على مرتب ليس بقليل الآن" فإبتسمت سارة وهي تشعر بالفخر من كفاح أختها، ثم سألت والدتها "ولما لم يسمح والدي لها بإكمال دراستها؟!...هل كانت تجد صعوبة في التعليم" فأجابت والدتها بدهشة وسرعة في نفس الوقت "من؟ أميرة، بالطبع لا فقد حصلت على مجموع 98% في الإعدادية" فرفعت سارة حاجباها بدهشة وقالت "ماذا؟!" فأكملت والدتها "نعم وأخذت هدية من المدرسة وشهادة تقدير، لكن والدك كان عليه أن يختار أن جعلها تكمل تعليمها أم يجعل أخوكي يكمل تعليمه" فسألتها سارة "ولما لايكمل كلاهما؟" فأجابت هدير "لأن هادي لم يكن مجموعه جيداً كان بالكاد 50% ولم يكن أمامه سوى المدرسة الخاصة والتي تحتاج لمبلغ ليس بقليل" وضحكت سارة بتهكم مرة أخرى وقالت "فضحى بمستقبل أميرة الباهر لأجل هادي وذاك لأنه ولد" ثم رفعت رأسها وإعتدلت في جلستها وقالت وهي تنظر بعيون أمها "أليس كذلك يا أمي" فنظرت لها والدتها لبرهة ثم تنهدت وطأطأت برأسها للأرض فهزت سارة رأسها بالإيجاب وقالت "حسناً، حقاً هذا المنزل في حاجة ملحة للتغير يا إلهي لا أصدق مايحدث....عن إذنك يا أمي سأذهب لأنام" فقالت والدتها "بهذه السرعة" فأجابت "هذا أفضل يا أمي لئلا أصب غضبي على أحد، تصبحين على خير" وتركتها ودخلت غرفتها والغضب والضيق يعصف بها، حتى يكاد يحرق من حوله فجلست بغضب والشرار يتطاير من عينيها على سريرها بالغرفة الصغيرة التي كانت تخص أميرة والمقتطعة من جزء من الصالة بحاجز خشبي، وراحت تفكر كيف ستكون حياتها بهذا المنزل وهذا المجتمع الذي لايرى في المرأة أهمية سوى قضاء احتياجات الرجل....
الفصل الرابع
مر اليوم الأول بسلام لكن بعد أن تكونت فكرة ليست جيدة لدى سارة نحو عائلتها، ولم تستطع النوم بسهولة وهي تفكر في الأمر وفي مقدار الظلم التي تشعر به نحو أختها التوأم أميرة ، ومع أنها قد قررت التصدي للأمر إلا أن نومها لم يخلو من الأحلام المزعجة والكوابيس..
"يا إلهيييييي" صرخت سارة مستيقظة من نومها والعرق يتصبب على وجهها لتجد نفسها أنها على السرير، فقد حلمت بقطار يتجه نحوها بسرعة وهي تقف أمامه على القضبان ولاتستطيع أن تتحرك، مدت يدها وصبت بعض الماء بالكوب من الدورق الذي بجوارها وشربت بعض منه، ثم أسندت رأسها قليلاً على وسادتها لتستجمع أنفاسها ولاحقاً مدت يدها وأمسكت بهاتفها لتجد الساعة قد قاربت السابعة فنهضت من على سريرها وأمسكت بالمنشفة الخاصة بها وتوجهت نحو الحمام...
خرجت سارة بعد أن أخذت حمامها الصباحي الساخن كما إعتادت عليه، وإذ بصداع بسبب نومها المتقطع وشعرت بحاجتها لكوب من الشاي فدخلت المطبخ لتعده
"صباح الخير إبنتي، جميل أن أراك هنا" قال أمين وهو يتأمل إبنته التي تقف بالمطبخ والإبتسامة تعلو وجهه، فإلتفتت له وإبتسمت ثم جاءت وطبعت قبلة على خده وقالت "صباح النور يا أبي، هل أيقظتك؟" فضحك أمين وقال "بل قولي أني أنا من أيقظك، فهذا موعد خروجي للعمل وسيلحق بي إخوتك واحداً تلو الأخر" فقالت له "آه، فليكن الله معكم" فهز رأسه بالإيجاب ثم قال بإبتسامة "صغيرتي هل لي بكوب شاي معك؟" فإبتسمت سارة وقالت له "حسناً بالطبع" ثم إلتفتت لتأتي بكوب أخر حين ظهر أيمن على باب المطبخ بجوار والده وقال "وأنا أيضاً ياسارة" ولحق به عادل "وأنا أيضاً" وظهر هشام وقال "سارة فلتصنعي الإفطار أيضاً من المؤكد أن الجميع يشعر بالجوع" وعلا صوت هادي "نعم نعم وأنا أيضاً" وهنا إتسعت عيني سارة وهي تنظر لهم في ذهول، وكأنها أم لخمسة أطفال وشعرت بالدور الذي لعبته أميرة يفرض عليها، فقطبت حاجباها وصاحت بغضب "أنا لن أفعل شىء" ثم وضعت الكوب الذي بيدها بقوة على المطبخ الخشبي حتى كاد يتهشم، وتركتهم وسارت بينهم وخرجت من المطبخ وجلست على الأريكة وضغطت على زرار تشغيل التلفاز، وراحت تشاهد أي شىء دون أن تلتفت لهم...
قطب أمين حاجباه وإتسعت عيناه في ذهول من ردة فعل إبنته عليهم، وثوان وتحولت دهشته لغضب وإتجه نحوها وصاح "كل هذا لأني طلبت منك كوب شاي، أنت حقاً فتاة لم تحظي بأي تربية لتتحدثي مع والدك هكذا" ثم أكمل "حسابي معك عندما أعود" وتركها وخرج وهنا أكمل أيمن "ولا أنا أريد من وجهك القبيح شىء" ولحق بوالده وكذلك قال عادل "ولا أنا ياساتر" وفعل مثل أخيه وصاح بالنهاية هادي "إنتي هتذلينا لانريد" وخرج هو الأخر....
سالت الدموع كشلال من عيني سارة التي تركز بصرها على شاشة التلفاز لكنها لاترى ولاتسمع سوى كلمات والدها وإخوتها التي راحوا يضربونها بها بقسوة دون أدني تفكير في سؤالها عن سبب ردة فعلها، وظلت تبكي بحرقة حتى أوقفتها يد والدتها التي وضعتها على كتفها فرفعت نظرها لتجدها تنظر لها بحنان فوقفت وإرتمت بين ذراعيها وراحت تبكي بشدة....
"إهدئي ياإبنتي أنا سأتحدث مع والدك وأشرح له وجهة نظرك، لا تغضبي من إخوتك هذه غلطتي أنا" قالت والدتها وهي تضمها بحضنها وما أن إبتعدت سارة قليلاً عن حضن والدتها حتى وقبل أن تسألها عن قولها أنها هي السبب قالت "أنا السبب في تربيتهم هكذا لكن صدقيني حاولت أن أجعلهم يساعدوني ويساعدون أختهم لكن والدهم وأصدقاءهم بل والمجتمع كان أقوى مني" فنظرت سارة مرة أخرى لوالدتها بدموع ثم ضمتها مرة أخرى تواسي نفسها وتواسيها على المعاملة القاسية التي لاقتها طوال عمرها...
"حسناً، إجلسي أنتي هنا وأنا سأعد إفطار خفيف لنا بعدها سأذهب للسوق وسأصنع لكم طعام وسترين طعام والدتك" قالت والدة سارة لها بعد أن هدأت قليلاً وجعلتها تجلس على الأريكة، لكن سارة لحقت بها وأمسكت بيدها قبل تذهب، فإلتفتت ونظرت لها، فقالت سارة "أمي أنتي مريضة، كيف تتحملي هذا." فإبتسمت والدتها وربتت على يد سارة الممسكة بذراعها وقالت وهي تبتسم "لا عليكي صغيرتي، الله يقويني" وهمّت لتذهب فأمسكت بها سارة ووقفت ثم قالت لها "لا ياأمي إجلسي أنتي" ثم إبتسمت وهي تقول "أنا سأعده" ثم تركتها ودخلت وقد أخذت قرار بأن تعد هي الطعام ومن بعده ستذهب للتسوق وعمل الطعام لعائلتها وقد رضخت لهم ليس لشىء سوى لحماية والدتها المريضة من بطش أقرب الناس لهم....أولادها وأخوتها.
خرجت سارة بعد أن تناولت إفطارها مع والدتها وراحت والدتها تدللها على قدر طاقتها، تربت على وجهها بحنان، وتطعمها بيدها، وتضحك معها، مما حسن من الحالة النفسية قليلاً لسارة، وبالنهاية عرفتها على جيرانها أم محمد التي تسكن بجوارهم وأم جرجس التي تقطن بالطابق الأسفل وإتفقت مع إبنتي المرأتين خديجة ومريان بالخروج للتسوق معاً وقد كان....
"أوعى المزز" ، "قمر ياناس" ، "يالهوي على الـ ثم أصدر صوت كصوت ذئب جائع وإبتلع ريقه" قال هذا وذاك بصوت مرتفع وبنظرات تملأها الشهوة وهم ينظرون للبنات الثلاثة وبخاصة إلى سارة التي خرجت وهي تفرد شعرها البني بحريه على كتفيها فتطاير مع النسيم حول وجهها وترتدي بنطلون جينز أزرق وتي شيرت أبيض، في حين خرجت خديجة بالحجاب كامل على عبائتها السوداء الواسعة، أما مريم فقد عقصت شعرها مثل كحكة فوق رأسها، وإرتدت قميص أحمر بأكمام طويلة على بنطلون أسود من القماش الواسع، وجميعم دون أي مستحضرات تجميل؟؟؟
في البداية إبتسمت سارة من هذه الجمل، وظنت أنها كلمات مجاملة من بعض شباب المنطقة لها خاصة وأنها غريبة ولم تتعرف على أحد بعد، لكن سرعان ماتبدلت ظنونها حين رأت نظرات الخوف والقلق التي تبادلتها خديجة مع مريان، فعقدت سارة حاجباها وقبل أن تسألهم بدأ الأمر يتضح وحده وإذ بشباب بل ورجال أحدهم في مثل عمر والدها بدأوا يطلقون العبارت بعضها عادي مثل قمر وجميلة أو قطة وبعضها جارح ومسىء وتشوبه الإحاءات الغير لائقة..
"ساااارة" صرخت خديجة وهي تجذبها بعيداً عن يد أحدهم الذي حاول أن يلمسها فشهقت سارة بذهول مما حدث وهنا أخذتها الفتاتان وسارعوا الخطى وإشتروا مايريدون بسرعة ثم عادوا كالقطار السريع والصاروخ الذي لايرى أمامه سوى هدف واحد وهو الوصول إلى المنزل...
"ماهذا الذي رأيناه؟!" قالت سارة للفتاتين ما أن وصلوا إلى مدخل المنزل وهي لاتزال في ذهول، وقلبها يرتجف بداخلها مما مرت به، فقالت مريان "سارة أرجوكي إنسي كل مارأيتيه" فصاحت بها سارة "أنسى ماذا؟! هذه الذئاب البشرية مكانها السجن"، فردت خديجة "وإن كان، ماذا يمكننا فعله معهم؟" فأجابت سارة "السجن، الشرطة ، هذا يسمى تحرش علينا تقديم بلاغ" فطوت خديجة ذراعيها أمامها وسألتها "وماذا ستقولين فيه؟ وهل تظنين أنهم سيصدقونك؟ وإن صدقوكي، ماذا تظنين أنه سيحدث؟، سيقولون أن الخطأ خطأك أنتي من ترتدين ملابس غير ملائمة، وشعرك ينساب على كتفيك وأنتي من تعمد جذب إنتباههم" فصاحت سارة بدهشة "ماذا!" فأكملت مريان "نعم ياسارة للأسف هذه الحقيقة لذا فمن الأفضل أن تنسي الأمر" فأجابت سارة "أنتظرا كلاكما أي ملابس أرتديها أنه تي شيرت وبنطلون جينز ليسا ضيقان حتى، وإن كانت ملابسي السبب، فلماذا لم تنجوا كلاكما من كلماتهم ونظراتهم" فتبادلتا الفتاتان النظرات دون كلمة وبالنهاية قالت خديجة "سارة نحن لا نقصد الإساءة لك، لكن هذا هو حال البلد، وكما قالت أمي أنه عندما تنبح الكلاب عليك بتجاهلها، فتجاهلي هؤلاء مثل الكلاب بالضبط" فضحكت سارة بتهكم وقالت "حقاً هؤلاء كلاب، حسناً فلنفترض أن هذا الرأي صحيح، ماذا عليّ أن أفعل إن تجرأ الكلب وحاول أن يصيبني بأنيابه مثلما حدث وحاول أحدهما لمـ..." وصمتت فنظرت لها الفتاتان ولم تعرفا ماذا تجيبان وهنا سمعوا صوت أحدهم ينزل على السلم فتوقفوا على الكلام وصعدت كل واحدة لشقتها....
صعدت سارة وهي غاضبة ودخلت المطبخ ووضعت الحقائب التي بيدها عليه، ووقفت تفكر فيما حدث وقد بدأت تشعر بقليل من الإحراج يتسرب بداخلها شىء فشىء ، فهي لم تتعرض طوال عمرها لشىء كهذا، لو كانت خالتها وعمها اللذان ربوها موجودين لأخبرتهم عما حدث بسهولة، لكنهم قد ماتوا وتركوها ، وبناء على فكرتها التي كونتها نحو والدها الحقيقي وإخوتها وكذلك كلام خديجة ومريان عن حال البلد عرفت أن أي كلمة بالموضوع لن يفعل شىء سوى أذيتها هي، وأن أحد لن يساندها أو يساعدها لتأخذ حقها ولن تجد سوى بعض التعاطف من والدتها المريضة التي لن تقوى عن فعل شىء لها، فدمعت عيناها وقررت عدم إخبارهم شىء والإحتفاظ بما حدث داخلها ...
"سااااارة هل هذا أنت؟" جاء صوت والدة سارة من حيث تجلس بغرفتها فردت سارة بعد أن مسحت دموعها بسرعة "نعم ماما" فقالت أيضاً دون أن تأتي "حسناً حبيبتي أنا آتية" فأسرعت سارة وقالت لتمنعها من أن تأتي وتراها على حالها التي هي عليه "لا لا يا أمي إستريحي سأهتم أنا بكل شىء، إنتظريني فقط" فجاءها صوت والدتها مرة أخرى "حقاً حبيبتي، ربنا يعوضك يا إبنتي ويريح قلبك كما تهتمين لراحتي" فضحكت سارة ضحكة صغيرة تلاشت بسرعة وسط دموعها الحبيسة بعينيها...
أعدت سارة الغداء بسرعة وسألت والدتها عن باقي الأعباء المنزلية التي عليها مساعدتها فيها، في الحقيقة لم تسألها لكن ما أن أنهت الطعام حتى وجدت والدتها تحاول تنظيف المكان وهي تتكأ على الحائط أو الكرسي أو أي شىء بالقرب منها فتسرع سارة وتقوم بالأمر مكانها، وكذلك فعلت مع غسيل وطي الملابس وتوضيب الأسرة إلى أخره.
بالنهاية فضلت سارة الهروب من مواجهة غضب والدها والجدال مع إخوتها، فبعد هذا اليوم الطويل لم تجد بها طاقة على فعل أي شىء سوى النوم، لذا أخذت حماماً ساخناً ودخلت غرفتها وناااااامت حتى الصباح...
أتت أميرة كعادتها بعد العمل لكن في هذا اليوم كانت هناك بعض المشاكل بعملها فتأخرت بضع ساعات، وعندما وصلت كانت سارة قد نامت، وأخبرتها والدتها عن مشاجرتها مع والدها وإخوتها فهزت أميرة رأسها بأسى وقالت "ينتظر سارة الكثير من الآلم فمع الآسف مجتمعنا ملىء بالمشقات بالمقارنة بالمجتمع الذي آتت منه" ثم تنهدت وربتت على يد والدتها وقبلتها، وهنا وصل والدها واخوتها ووقفت هي ووضعت لهم الطعام وقامت بعمل الشاي لهم ثم دخلت الغرفة بهدوء وألقت نظرة على سارة ولفت نظرها مكان الدموع على وجهها فإقتربت منها ومسحتهم بهدوء وتمتمت في أذنها بصوت هادىء جميل "كوني قوية ياأختي أرجوك" وقبلتها ثم تركتها وعادت إلى منزلها....
مراليوم الثاني لكن بعد أن عانت سارة فيهم من تجربتين لم تفكر يوماً أنها ستتعرض لهم، ظلم أقرب الناس لها، والتحرش بها....تجربتين هزا كيانها، وبالرغم من روحها المقاتلة لم تستطع فعل شىء بسبب ضعف أمها وتفكير المجتمع المتحيز للرجل بكل الطرق، مما وضعها بسجن شعرت فيه بالذل والإحباط لكن دائماً مايظهر بصيص النور وسط الظلام وتذكرت أن هذا اليوم هو أول يوم عمل لها...
كان يوسف قد دبر لها عمل جيد بأحد الهيئات الثقافية الحكومية بناء على طلبها لإرادتها أن تخدم وطنها وتقديم مؤهلاتها له، وقد كان ليوسف العديد من العلاقات الجيدة مع أناس على مستوى رفيع بالإضافة لمؤهلات سارة الدراسية حيث تخرجت من إحدى الجامعات البريطانية وتتحدث عدة لغات بالإضافة إلى العربية لذا لم يكن الأمر صعب...
نظرت سارة لساعتها فوجدتها لم تتعد السابعة فهمّت لتنهض لكنها تذكرت أن هذا موعد خروج والدها وإخوتها ففضلت الإنتظار حتى يذهبوا، وهنا سمعت صوت والدها المرتفع وهو يتحدث مع زوجته ويقول "أم أيمن، كانت ببلد غريب أو لا، تربت بطريقة مختلفة أو لا، هي الآن بمصر بلد عربي، عليها أن تتعلم أن الرجل رجل والست ست، وسواء أرادت أو لا عليها الرضوخ لعاداتنا وتقاليدنا أتسمعين، أخبريها بذلك أنت أو سأفعل أنا الآن" وسمعت صوت أقدامه تتوجه نحو غرفتها فإتسعت عيناها بخوف وهي تنظر نحو بابها المغلق لكن والدتها لحقت به وسمعتها تهمس له "لا لا سأخبرها أنا، إذهب أنت أرجوك قد تأخرت على العمل" وهنا نظر لها قليلاً وإبتعدت خطواته مرة أخرى وخرج...
نهضت سارة بعد أن تأكدت من خروج الجميع، ثم توجهت نحو والدتها وعانقتها بقوة دون كلمة، ولاحظت والدتها الحزن الذي بعينيها فقالت لها "حبيتي لاتحـ" فوضعت سارة يدها على فم والدتها ثم ربتت على يدها برفق ودخلت أخذت حمامها وإرتدت ملابسها..
"هل ستخرجين؟" سألتها والدتها وهي تراها ترتب شعرها وترفعه كذيل حصان بلونه البني الثقيل من خلف رأسها، فردت سارة بإبتسامة ضعيفة "نعم أمي، اليوم هو أول يوم عمل لي" فردت والدتها "آه نعم، هذا العمل الذي وجده لك يوسف أليس كذلك؟" فأجابت سارة وقد إلتفتت نحوها وهي تمسك بحقيبة يدها وتضع فيها متعلقاتها الشخصية "نعم يا أمي" فأومأت والدتها برأسها بالإيجاب وقالت "حسناً" ثم أكملت وسارة تمسك بزجاجة العطر وتضع بعض منه "هل هو بعيد؟، كيف ستذهبين إليه" فوضعت سارة الزجاجة بمكانها أمام المرآة ثم إلتفتت لوالدتها مرة أخرى وهذه المرة أمسكت بيديها وجلست معها على السرير وقالت وهي تنظر لها وتبتسم "هو ليس ببعيد أعتقد وقد وصف لي يوسف الطريق، وسأستقل الحافلة إلى هناك لا تقلقي" فقطبت والدتها حاجباها وقالت لها "ولما حافلة سيارة أجرة أفضل و" فقاطعتها سارة "أمي عليّ أن أعتاد على الحياة هنا، أليس هذا ما قاله أبي؟" فنظرت لها والدتها وتنهدت بحزن فإبتسمت سارة ثم قالت لها "لا تقلقي، عليذ الذهاب سأتصل بك من هناك" ثم أعطتها قبلة على خدها وتركتها وذهبت...
سارت سارة بالشارع بثبات بحذاء بكعب عالي وبذلتها السوداء الرسمية ذو القميص الأبيض تحتها وتمسك بحقيبتها الجلد بنفس لون بدلتها، وتوجهت مباشرة نحو محطة وقوف الحافلة حيث أصرت أن تركبها بيومها الأول لتتعرف على المكان أكثر، ورغم قلق يوسف الشديد عليها إلا أنه تركها تجرب هذه المرة...وياليتها إستمعت له....
ركبت سارة أخيراً أحد الحافلات المتوجهة إلى ميدان التحرير بعد أكثر من نصف ساعة من المحاولات للوصول لإحداها، في البداية صعقها الإزدحام الشديد دون نظام بمحطة الإنتظار، لكن ما جعلها تتسمر في ذهول لدقائق منظر تدافع الناس عند وصول الحافلة دون نظام أو طابور أو أي شىء، وبالنهاية إبتلعت ريقها واستوعبت الأمر وتمتمت "عليا الإعتياد ليس إلا" ثم أخذت نفس عميق وزفرته وأمسكت بحقيبتها وإنضمت لجيوش المندفعين
"هوووف أخيراً" قالت سارة لنفسها وهي تجلس على المقعد المقابل للثلاث مقاعد المتراصة بالحافلة (الباص) ورغم ضيق المكان والجلوس الغير مريح لها حيث كانت تجلس محشورة ظهرها لكرسي السائق ووجهها للسيدة التي تجلس أمامها في الأريكة المقابلة لها لكنها إعتبرت نفسها محظوظة لركوبها أخيراً ولو بهذه الطريقة.
"أنت ياهذا ماذا تفعل؟" عقدت سارة حاجباها وصاحت وهي تشير لأحد الجالسين بالمقعد الأخير بالحافلة حينما رأته يحاول تمرير يده بين الأريكة وزجاج السيارة ليصل إلى الفتاة التي تجلس بالمقعد الذي أمامه، فتنبه لها وسحب يده بسرعة فإلتفتت الفتاة نحوه وصاحت به "ماذا تفعل ياحيوان" فصاح "ماذا؟ لم أفعل شىء" وهنا صاح الرجل الذي بجواره "أصمتي لم يفعل لك شىء، لكن الرجل الجالس بجوار سارة صاح" نعم لم يفعل بعد لكنه كاد، إتقي الله هي مثل أختك" فرد الرجل "ليس لي أخوة" فقال السائق "وحدوا الله إهدأوا" فصمت الجميع وصمتوا حتى الفتاة لكن بعد فترة ليست بكبيرة وقفت الفتاة وإلتفتت نحو الرجل وراحت تضربه بالكتاب الذي بيدها وهي تصرخ بها "حيوان، تستحق القتل لكن العيب ليس عليك" ثم صرخت بالسائق أن يتوقف وترجلت وأكملت طريقها سيراً على الأقدام لكن لم يسير الباص كثيراً حتى ترجل هذا الرجل من الحافلة وراح جميع الركاب يحاولون مراقبة ماسيفعله وقال أحدهم "من المؤكد أنه لن يتركها بحالها ربنا يستر عليها" وقال أخر "هي من مدت يدها عليه" فردت سيدة مسنة "وماذا كان عليها أن تفعل هل كانت تبقى صامتة؟" وقال أخر "على مايبدو أن الأمر كله مسرحية علينا"......
ضحكت سارة بتهكم لكنها لم تعلق ونظرت عبر النافذة وهي في دهشة من التعليقات التي سمعتها (أحدهما دعى لها بالستر، والأخر لامها على دفاعها عن نفسها، والأخرى شجعتها بصمت والأخير يرى الأمر مسرحية، يا إلهي ولا واحد منهم، لا رجل ولاسيدة قاموا بخطو إيجابية، ولا واحد منهم طالب بالذهاب لتقديم محضر، ولا واحد ترجل منهم ليوصلها، ولا واحد حتى السائق لم يقم بخطوة ولو غير ظاهرة وأجبره على النزول بعيداً عنها).
أخيراً قفزت سارة من الحافلة أمام مقر عملها وراحت ترتب شعرها وملابسها قبل أن تستعد للصعود إليه. المبنى ضخم نصف دائري عريض يتكون من أكثر من عشر طوابق متراصة فصعدت أولا حوالي عشر سلالم مؤدية لبابه الزجاجي، ثم توجهت نحو موظف الإستقبال الذي إبتسم لها وأشار لها للصعود للدور الثاني حيث ستقابل السيد مصطفى سلام الذي كلمه يوسف والرئيس العام لها بالعمل....
كانت الهيئة أحد أكبر الهيئات الثقافية بمصر، تهتم بالأدب ومكتبة عامة كبيرة تحوي ملايين الكتب والخرائط وما أرادوه من سارة هي أن تقوم بترجمة اللغة الإنجليزية والفرنسية للعربية...
"سيدي الآنسة سارة أمين من طرف دكتور يوسف" قالت السكرتيرة للسيد مصطفى تستأذنه لدخول سارة وتضع أمامه الملف الذي أعطتها سارة، فأمسك مصطفى بالملف الذي أمامه وألقى نظرة عليه ثم قال لها "دعيها تدخل" فخرجت السكرتيرة وقالت لها "تفضلي" فدخلت سارة وأغلقت السكرتيرة الباب.
"أهلاً أهلاً أهلاً أنسة سارة، دكتور يوسف أخ عزيز علينا وقد أخبرني أنك خطيبته" قال مصطفى بإبتسامة وهو يمد يده ويصافح سارة فإبتسمت سارة وأجابت "شكراً على ترحيبك سيد مصطفى، ونعم يوسف خطيبي لكن أتمنى ألا تكون المعاملة على هذا الأساس أرجوك عاملني بناء على عملي فقط" فهز مصطفى رأسه بالإيجاب وهو معجب بكلامها وشخصيتها ثم قال "حسناً أنسة سارة لك هذا" ثم أمسك بالملف وراح يتصفحة وهو يهز رأسه بإعجاب ويقرأ السيرة الذاتية لها حيث أنها عملت أثناء دراستها الجامعية بعدد من المكتبات الكبرى ببريطانيا وحصلت على كل منهم بشهادة تقدير لمجهوداتها، كذلك لديها عدة شهادات لإجادتها العديد من البرامج الهامة في مجال تنظيم المكتبات والكتب والخرائط والمخطوطات، بالإضافة لدراستها وتحدثها بعدة لغات منها ماهو موجود كالإنجليزية والفرنسية واللغات القديمة كاليونانية والهيروغليفية...
"السيرة الذاتية الخاصة بك رائعة أنسة سارة" قال مصطفى وهو ينظر للأوراق فإتسعت إبتسامة سارة وأجابت "يسعدني أنها نالت إعجابك" فأومأ برأسه بالإيجاب وأغلق الملف ثم ضغط على أزرار هاتفه الأرضي الموضوع أمامه على المكتب وقال "أنسة فاطمة تعالي دقيقة" فقرعت السكرتيرة على الباب ودخلت لهم فقال لها "نادي أستاذ محمد لو سمحت رئيس قسم المخطوطات من فضلك" فأومأت فاطمة له برأسها بالإيجاب وخرجت من المكتب...
دقائق وقرع أستاذ محمد الباب كان رجلاً في أواخر الأربعينات يرتدي بذة بيج متوسطة القيمة وقد زحف الشيب على جانبي شعره "نعم سيدي تحت أمرك" قال محمد بعد أن أغلق زرار جاكته فأجاب مصطفى وهو يشير لسارة "أنسة سارة الموظفة الجديدة بقسمك، الذي أخبرتك عنها أمس" فنظر نحوها وإبتسم وقال وهو يمد يده يصافحها "أهلاً، أهلاً تشرفنا أنسة سارة" فوقفت سارة وإبتسمت له ومدت يدها تصافحه، وهنا جاء صوت مصطفى يكمل حديثه لمحمد وقال وهو يعطيه ملفها "أنسة سارة لديها مؤهلات قيمة للغاية أربع لغات وكورسات وخبرة كل شىء أتمنى أن تستفيد جيداً منها" فأومأ محمد برأسه بالإيجاب وأجاب بسرعة "بالطبع بالطبع" ثم قال لسارة "تفضلي معي أنسة سارة" فأمسكت سارة بحقيبتها وشكرت مصطفى وخرجت معه من المكتب..
"أنسة سارة ، قد أتيتي لتوك من بريطانيا؟" سأل محمد سارة وهما يسيران معاً في الرواق المؤدي إلى قسم المخطوطات فردت سارة بإبتسامة "نعم منذ يومين فقط" فقال لها بدهشة "منذ يومين ، يبدو أنك عملية جداً أنسة سارة" فردت عليها "هكذا تعودت منذ صغري" فإبتسم لها وفتح أحد الأبواب الموجودة بنهاية الرواق...
دخلت سارة إلى مكتب كبير يحتوي على العديد من الأرفف الدائرية كذلك أربع مكاتب كل اثتان متقابلان يجلس على إثنان منهم إثنان من الموظفين، سيدة تبدو في الثلاثينيات من عمرها وشاب في مثل عمر سارة والمكتب الثالث بجواره خزنة كبيرة ومن الوهلة الأولى تعرف أنه لرئيس القسم ....
"أنسة سارة، أحب أن أعرفك، أستاذة سحر نائبة رئيس القسم، وأستاذ أمير زميلك بالعمل نفسه" ثم نظر لهم وهو يشير لها "أنسة سارة الموظفة الجديدة" فقالت وهي تومأ برأسها "تشرفت بمعرفتكم" فأجابا كلاهما "الشرف لنا"...
جلست سارة بسعادة على مكتبها الرابع وأتى لها أمير بكوب القهوة الساخنة الأول لها فمدت يدها وأخذته منه وشكرته ولم يمر أكثر من ساعة حتى خرج محمد من الغرفة....
فتحت سحر بعض الدفاتر وراحت تنظر هنا وهناك وتكتب فيها، أما أمير فقد كانت هناك أكوام من الأوراق على مكتبه يقوم بترقيمها وطيها ووضعها بالترتيب خلفه تمهيداً لترجمتها...
نظرت سارة نحو أمير والأكوام المتراصة إلى جواره ويبدو أنه لم يبدأ بترجمتها بعد وفقط يقوم بجدولتها ولاحقاً سيبدأ بالترجمة وبما أنهما زميلي عمل فقد قررت أن تعرض عليه مساعدتها
"دعني أساعدك" قالت سارة لأمير وهي تمسك ببعض المخطوطات من على مكتبه فأسرع وقال وهو يأخذها منها "لا لا أنسة سارة شكراً جزيلاً، هذه مسئولية وعهدة أنتي تعلمين" فقالت له وهي تبتسم "أعلم لكن أنت كنت وحدك لذا كانت كل المسئولية عليك أما الآن فأنا هنا ونتشارك في نفس العمل فدعني أساعدك" فأجابها وهو يشعر بالإحراج وقال "عفواً أنسة ربما في باقي العمل الآتي لكن هذه المخطوطات مسئوليتي أنا أرجوكي لا تسيئي فهمي" فبدأت تترك المخطوطات من يدها وهي بالفعل تشعر بالإنزعاج والضيق فأسرع وقال لها "العمل كثير وسيأتي غيرها عن قريب أنا أعرف" فتركتها كلها ونظرت له وزفرت بعض الهواء وقالت "حسناً كما تشاء".....
"الغربال الجديد ليه شدة" إلتفتت سارة نحو سحر عندما قالت هذه الجملة وهي لا تفهم قصدها فأجابتها "يعني الإنسان عندما يعمل حديثاً يكون ملىء بالحماس، إجلسي ياإبنتي العمل قادم قادم" فضحكت سارة وأومأت برأسها بالإيجاب وهي تبتسم لها.
"حسناً ها قد إنتهى العمل المكتبي وحان وقت العمل المطبخي" قالت سحر وهي تمذح مع نفسها وتضب الملفات وتضعها جانباً على المكتب ثم أخرجت صينية وحقيبة بها بامية وسكين وراحت تهذبها؟!!!!
إتسعت عيني سارة في ذهول حتى بات فمها مفتوح ثم ضحكت وسألت سحر "ماهذا؟!" فنظرت لها سحر وقد أخرجت السكين وبدأت في تهذيب البامية "ما الأمر؟، لما تبدين متفاجأة؟" فضحكت سارة وهي تقول "ألا تعرفين؟" فأجابت سحر بعد أن هزت رأسها ليمين قليلاً ثم إعتدلت مرة أخرى وقالت "أعرف لكن فكري معي يامن أتيت من بلاد العمل الجاد، أنا الآن قد إنتهيت من الأعمال الموكلة لي وباقي على الإنصراف أكثر من ساعة ونصف، ماذا عليا أن أفعل أتأملكم أو نتحادث أو الأفضل أملأه بباقي الواجبات الموكلة لي" ثم علت إبتسامة ظافرة وجهها وقالت "أنا أستغل الوقت عزيزتي ألست مدبرة جيدة؟" فضحكت سارة وأومأت برأسها بالإيجاب وقد إقتنعت بكلامها إلى حد ما خاصة وأنها منذ أن جاءت ولم يوكل لها أي عمل...
لم تكمل سارة حديثها حتى دخل عم حسين الساعي محمل بعدد من المخطوطات ووضعها أمام أمير وقال له "أستاذ محمد يرسل لك هذا وعليك التوقيع هنا" وأشار له بورقه معه فأخذ أمير المخطوطات وقبل أن يوقع تدخلت سارة...
"إنتظر يا أمير" قالت سارة ووقفت وتوجهت نحوهم وقالت "عم حسين، قد إلتقينا صباحاً أتذكر" فأجاب "بالطبع أنسة سارة" فأكملت "أعتقد أن أستاذ محمد كان يقصدني أنا وليس أمير، فأمير لديه الكثير من العمل من الأساس، وأنا آتيت لتوي لذا أعتقد أنه نسى أمري" فهز عم حسين رأسه بالنفي وقال "لا أنسة لم ينس حتى أنه طلب مني سؤالك إن كنتي تريدين أن أجلب لك شىء من الخارج" فقطبت سارة حاجباها ثم قالت له "حقاً!، إذن خذني له من فضلك" فعقد حسين حاجباه لكنه قال "حسناً" وعاد ليطلب من أمير التوقيع إلا أنها أوقفته وأمسكت بالمخطوطات وسارت أمامه فلحق بها...
"أستاذ محمد" قالت سارة وهي تتجه نحو محمد والمخطوطات بيدها فإلتفت لها وقال وهو يبتسم "أنسة سارة" فقالت له "نعم أستاذ محمد" ثم نظر نحو المخطوطات التي بيدها ثم رفع نظره نحو عم حسين وعاد ونظر لها فقالت "أستاذ محمد أظن أنك قد نسيت أني قد بدأت العمل اليوم لذا أوكلت العمل لأستاذ أمير؟" فأخذ نفس عميق وزفره ليضع الكلام القاسي الذي سيقوله في قالب من الذوق "آه أظن أنه لا أنسة سارة" ثم إبتسم وهو يقول "هذا هو أول يوم عمل لك فلما أثقل عليك؟" فإبتسمت سارة إبتسامة فقط لتخفي غضبها "بالعكس أستاذ محمد لأن اليوم أول يوم فهو سبب أدعى لأريك قدراتي، المهم إن كان هذا هو سبب عدم إعطائي مهام هذه المخطوطات إذن سأخذها" وهمّت لتذهب لكنه قال وهو يمد يده ويأخذ المخطوطات منها بالفعل فإتسعت عينيها وسألت بدهشة "أستاذ محمد" فقاطعها وقال "أنسة سارة في الحقيقة هذه المخطوطات هامة جداً، ولايمكنني أن أعطيها لإمرأة مهما كانت" فقطبت سارة حاجباها وقالت "إمرأة!" فأجاب "نعم أنت فتاة سواء كنت خريجة كامبريدج أو معهد سنجر في كل الأحوال أنت مخطوبة وقريباً ستتزوجين وستحتاجين كثير من الوقت المستقطع لأجل الجهاز وثم الجواز وشهر العسل والحمل والولادة والتربية، أي تأخير وأجازات غير محددة التوقيت وأنا أحتاج لمن معه هذه المخطوطات ال24 ساعة أتفهمين" فأجابته "هذه ظروف سيد محمد ورجل أو إمرأة قد يتعرض للأمر" فرد عليها "أعلم لكني أثق بالرجل أكثر" فإتسعت عيناها وصاحت "هذه عنصرية سيد محمد" فقطب حاجباه وظهر غضبه بدلاً من التظاهر بالسعادة لوجودها "عنصرية أم لا هذا هو قراري" قالها وهو يشيح بيديه ثم أكمل "إن لم يعجبك فغادري" ثم أكمل "وبالمناسبة أستاذ مصطفى يعلم بقراري ويعرف طريقة عملي منذ خمسة عشر عاماً حتى أستاذة سحر لا نوكل لها سوى بعض الأعمال المكتبية المملة وتمضي عليها عوضاً عني"...إتسعت عيني سارة في ذهول أكثر مما يحدث وأرادت بكل قوتها أن تصيح به وتخرج كل مبادىء حقوق المرأة والمساواة بينها وبين الرجل لكنها فكرت في الإحراج الذي سيتعرض له يوسف خاصة وأنه ومصطفى صديقان فأعطته باقي المخطوطات بجدية وعادت للمكتب وأخذت حقيبتها وإنصرفت...
عادت سارة من عملها على عكس ماتوقعت ، شعرت بالإحباط يتسلل داخلها وأمام ماقاله له رئيسها وجدت أن أمامها حلان إما أن تواجه الأمر وتصطدم برئيسها وربما بالسيد مصطفى أيضاً وحينها من المؤكد أنها ستعرض يوسف لإحراج كبير، أو أن تهدأ وتحاول أن تطاوعم قليلاً حتى تثبت له أنها على قدر الثقة وحينها ستثبت له أن المرأة يمكنها أن تقوم بنفس مهام الرجل دون ضرر لأحد وقد كان وفضلت الحل الثاني لأسباب عدة منها عدم التواجد بالمنزل كثيراً....
وصلت سارة للمنزل وما أن دخلت حتى وجدت والدتها بالكاد تستطيع أن تقف وتعد الطعام، وهي تستند على المطبخ فرمت حقيبتها على الأريكة وأسرعت نحوها وقالت "أمي، ماذا تفعلين منذ متى وأنتي هنا؟" فربتت على يدها وقالت "منذ الصباح صغيرتي من سيقوم بعمل المنزل" فنظرت لها بحزن ثم هزت رأسها بأسى وأخذت نفس عميق في محاولة منها لكبت إنفجارها من إخوتها الذين يتركون كل شىء على والدتهم وعليها ثم قالت لها "أدخلي أمي أنا سأكمل" وبالفعل بعض قليل من التمنع من أمها دخلت غرفتها وأكملت سارة الغداء...
حاولت سارة الإنتهاء من كل شىء قبل وصول والدها وأخوتها وكادت تنجح لولا وصول والدها المبكر....
"يا إلهي أعني" تمتمت سارة وفكرت في أن تخرج وتدخل غرفته بهدوء لكن من سيضع له طعام وخافت أن يتطور الأمر وخشت أن يعاقبها فهو لايزال غاضب منها، فصمتت وقامت بوضع الطعام له ولأخوتها وما أن إنتهوا من الطعام قامت وضبت الطاولة في صمت حتى قال لها والدها "سارة" فإلفتت له وهي لا تزال تمسك بالأطباق فأخذها منها ووضعها على الطاولة وقال لها وهو يشير للكرسي أمامه "إجلسي" ففعلت على مضد فقال لها "إسمعيني جيداً ياسارة أنا لم أعاقبك تقديراً مني أنه لاذنب لك، الذنب ذنب أخي وزوجته و.." فقاطعته بحدة "أبي وأمي ربياني أحسن تربية" فرفع أمين حاجبه وقال "هل تتحديني ياسارة" فإرتجفت سارة وقالت "بالطبع لا يا أبي أنا فقط أوضح الأمر" فأخذ نفس عميق وزفره ثم قال وهو يكظم غيظه "حسناً لايهم المهم أن تعلمي أن هنا يختلف الأمر كثيراً عن الخارج ، هنا الرجل رجل والمرأة مرأة لكل منهم مهامه وواجباته وعليه القيام بها" فردت "أعلم يا أبي وهناك أيضاً تعلمنا هذا، لكن هنا نتحدث فقط عن الأمر لكن الحقيقة هي أن الرجل أصبح لايرى للمرأة مكان سوى الخدمة في المنزل وإمتاعه والسهر على راحته أصبح لايراها شريكة له بل جارية والدليل على ذلك هو ظاهرة التحرش التي إنتشرت بكل أنواعها" فقطب أمين جبينه وقال بغضب وهو يحاول أن يتماسك وعيناه يتطاير منها الشرر لشدة الغضب "أصبحت تربيتي هي سبب التحرش..مممم سارة أغربي عن وجهي الآن وحالاً" فإبتلعت سارة ريقها وإنسحبت إلى غرفتها بهدوء
أخيراً إنتهى اليوم الثالث ، كان يوماً طويلاً وشاقاً بأحداثه المتوالية والتي كانت للأسف معظمها محبط...
تنهدت سارة براحة وهي تسند ظهرها على الباب ما أن دخلت حجرتها، وكأنها نجت من ثورة بركان، لكن قلبها لايزال يشعر بالحزن مما هي فيه سواء بالمنزل أو العمل كلاهما على عكس ماتوقعت تماماً، وهي التي كانت تشتاق للعودة إليهم، اخذت حمامها وارتدت ملابس النوم وغطت في نوم عميق...
دق المنبه حوالي الساعة الثامنة وتعمدت سارة ذلك ضبطه متأخر حتى لا تتقابل مع أحد وقد كان لها مبتغاها ، نهضت من على سريرها وأخذت حمامها وإستعدت للذهاب إلى العمل وقد قررت أن تظهر جديتها في العمل وإظهار إجادتها لعملها بمهارة أمام رئيسها حتى تكسب ثقته فربما حظى بتجارب غير جيدة مع سيدات قبلها وهذا ماجعله يتصرف على هذا النحو....
سارت سارة حتى مكان الحافلة وتمكنت الركوب هذه المرة بالمقعد الأوسط حيث الجلوس أكثر راحة..وفجأة سمعت صوت أحدهم "الأجرة يا....أنسة!"
"الأجرة يا....أنسة" قال أحدهم لها ومن الواضح إهتمامه بها خاصة من طريقة نطقه لأنسة فأخرجت النقود من حقيبتها ووضعتها بيده، لكن ما أن رفعت عينيها ونظرت له حتى إرتجفت وإبتلعت ريقها فقد كان هو نفس الشخص الذي رأته بالأمس يحاول الوصول لتلك الفتاة ونبهتها هي ...تعرفت عليه وعلى مايبدو من طريقة كلامه ونظراته وإبتسامته الخبيثة أنه أيضاً فعل...فإبتلعت ريقها وإنكمشت في مكانها وهي تراقب كل لفتة أو إماءة أو حتى حركة بسيطة منه وعلى عكس المتوقع لم يفعل شىء بل ظل صامتاً لكنه يحدق بها وكأنه يتوعدها وبالنهاية لم تستطع أن تصمد...
"هنا لو سمحت" قالت بصوت مرتفع لتنبه السائق أن يقف لتترجل قبل الوصول لمكان عملها مفضلة الهروب من الرجل والتخلص من تهديده، وما أن نزلت حتى قفز الرجل ولحق بها فسارعت الخطى لكنه تبعها فسارعت دون حتى أن تنتبه إلى أين تذهب وبالنهاية توقفت الخطوات عن لحاقها فوضعت يدها على صدرها تلتقط أنفاسها وما أن هدأت قليلاً وبدأت بالسير بهدوء حتى فوجئت به أمامها يبتسم وإذ بضربة قوية أسفل عنقها أفقدتها الوعي...
لم تنتبه سارة وهي تحاول الهرب منه أنه كان يضغط عليها ويحاورها لتسير بشارع بعينه، خالي من الناس كانت كالفأر الذي يلاعبه القط ليدخل إلى المصيدة وللأسف وقعت في الفخ...
لم تكن الضربة بالقوة المطلوبة ففتحت سارة عينيها لتجد الرجل قد فتح باب سيارة أجرة ويضعها بداخلها، فأغلقت عينيها بسرعة لئلا ينتبه لها، وما أن أغلق الباب وخرج ليركب بمكان السائق حتى فتحت الباب الذي بجانبها وراحت تركض بكل قوتها ....
كان الشارع خالي حقاً في مثل هذا الوقت، فعلى مايبدو هو شارع خاص بالورش الصناعية واليوم هو يوم الأجازة الخاص بهم، لذا فقد كان به قلة من المارة وعلى مايبدو أنه يعرف المنطقة جيداً..
ظلت سارة تركض بغير هدى وكل ماتحاول فعله هو الهروب والإبتعاد عنه لكنها تعرف أنه طويل وأكثر منها قوة وخطواته من المؤكد واسعة وسيصل لها قريباً وهنا رأت أحد الأركان المظلمة بين منزلين فدخلت بسرعة وإختبأت هناك....
"ياإلهي، أرجوك ساعدني، يارب ساعدني" تمتمت سارة بدموع وهي تلهث بهدوء لئلا يسمعها الرجل، وترفع قلبها وتصلي وتتضرع لله أن يجعله يفقد الأمل في أن يجدها، وفي ظل هذا تذكرت هاتقها وحمدت لله أنها لم تضعه بحقيبة يدها، بل وضعته في جيب بنطالها وإلا كان ضاع هو الأخر مع حقيبتها..
"ترررررن" رن هاتف يوسف أثناء إجتماعه مع عدد من العلماء بالمركز القومي للبحوث، فإستأذنهم ورد على هاتفه عندما رأى أنها سارة التي تتصل، فهي تعرف ماذا يفعل وماكانت تتصل لو لم يكن الأمر ضرورياً فأجاب ...
"ألو حبيبتي ما الأمر؟" سأل يوسف سارة عبر هاتفه، فأجابت وهي لا تزال تلهث وبصوت متقطع همست "يو يو يوسف أرجوك إنجدني، أرجوك تعال بسرعة" فعقد يوسف حاجباه ودب القلق في قلبه "سارة مابك لم تتحدثين هكذا ما الأمر؟" فردت "يوسف إلحقني أرجوك لايوجد وقت للشرح" فقال لها بقلق ولهفة "حسنا حسناً أين أنت؟" فأجابت "لا أعلم بمكان بالقرب من رمسيس" فسألها "حاولي أن تصفي لي المكان" فأجابت وهي تحاول أن تبلع بقايا ريقها بفمها الجاف من شدة الخوف "أ أ يوجد توجد محلات كثيرة تبدو مثل الورش أو الحدايد شىء كهذا" فأومأ برأسه وهو يضع متعلقاته بجيوبه ويرتدي سترته "أه السبتية حسناً أنا في الطريق إبقي معي دقيقة" ودخل إستأذن باقي العلماء وعاد إليها...
"سارة، لازلتي معي؟" سأل وهو يركب المصعد ليصل لسيارته فردت "نعم نعم" فسألها "هل هناك أي علامة تستطيعي رؤيتها مثل..محل أو اسم الشارع أو يافطة محل" وهنا قاطعته "نعم نعم هناك محل اسمه النمر اليافطة حمراء ومرسوم على جانبها نمر" فهز رأسه بالإيجاب وهو يفتح باب سيارته وقال وهو ينطلق نحوها " سارة من فضلك إفتحي الـGPS الخاص بهاتفك، أنا في الطريق أصمدي أرجوكي" ثم إنطلق نحوها...
سمعت سارة وقع أقدام تتقدم نحوها، فإرتجفت روحها داخلها، لكنها تماسكت ووضعت يدها على فمها لتمنع صرخة كادت تفلت منها، وظلت تلك الأقدام تزداد وتتقدم نحوها وقلبها ينبض بسرعة وهي تكتم أنفاسها، والرجل يقترب أكثر وأكثر، فأغمضت عينيها وقد أوشك قلبها على التوقف وفجأة فتح الرجل الباب الخشبي التي تختبأ خلفه...
قاد يوسف السيارة بسرعة جنونية ليصل لها بأسرع مايمكن، وبالفعل وصل في وقت قياسي وساعده في ذلك أن وقت دخول الموظفين قد إنصرم وهدأت حركة المرور..
ترجل يوسف من سيارته أمام أحد الشوارع بحي السبتية وهناك سأل صاحب كشك كان يفتح أبوابه للتو عن أسم الورشة وأشار له على مكانها بأحد الشوارع الجانبية فشكره يوسف وأخرج هاتفه ليتابع تحرك سارة عبر الـGPS وسار نحوها حتى وصل لليافطة ومنه رأى الباب الخشبي الذي وضعته لتختبىء خلفه بأحد الأزقة فتوجه نحوها
"آآآآآآآآه" صرخت سارة وهي تغمض عينيها فرد يوسف بسرعة "أنه أنا، أنا إهدئي" ففتحت عينيها وقالت "يوسف" وسقطت بين ذراعيه مغشياً عليها...
"حمل يوسف سارة ووضعها على أحد الكراسي القديمة الموضوعة بالشارع بجانب أحد المحال المغلقة وراح يحاول إيقاظها بمساعدة صاحب الكشك الذي لحق به عندما سمع صرختها وأعطاه زجاجة مياه...
"حبيبتي، سارة هل تسمعيني؟" قال يوسف بقلق وهو يحاول إيقاظها فلم ترد في أول بضع دقائق، لكن بالنهاية فتحت عينيها ونظرت له وقالت وهي لاتزال غير متماسكة "يوسف" فرد عليها وهو يمسك يدها "أنا هنا، إهدئي لا تخافي" فنظرت له وقد بدأت تستوعب الأمر ثم إجهشت في البكاء...
أخيراً تماسكت سارة وإستطاعت بمساعدة يوسف الوصول لسيارته، وما أن جلست وشعر يوسف أنها هدأت حتى سألها عن ماحدث فراحت تقص له الأحداث منذ أمس وهي ترتجف ولا يزال الخوف يتملكها...
"...فإنتهزت فرصة إنشغاله ليجلس بمقعد السائق وفتحت السيارة وركضت بعيداً،...يا إلهي ياإلهي لو لم أستيقظ في الوقت المناسب لكان" ثم وضعت يدها على فمها وهي تنظر أمامها بعيون زائغة لا ترى أمامها...
جلس يوسف يستمع إلى سارة دون أن ينطق بكلمة، وحالته لا تختلف كثيراً عنها، كان متماسك ويركز نظره على الطريق، لكن قلبه كان يدق بسرعة والغضب يتملكه تماماً وكأن الدماء قد إندفعت من كل جسده إلى عقله، ومع أنه يركز على الطريق إلا أنه بالكاد يستطيع رؤيته...
توقف يوسف أمام باب منزل سارة بحي باب الشعرية، ثم أخذ نفس عميق وزفره ببطء، وإلتفت لسارة وإبتسم إبتسامة خفيفة وسريعة ثم أمسك بيدها وضغط عليها برفق وهو يهز رأسه لها بالإيجاب ليطمئنها....ثم قال "هيا ياحبيبتي" فنظرت له وهي خائفة فقال لها "انا معك لا تخافي" فوافقته وترجلا معاً...
"سارة مابك؟" صرخت والدة سارة وضربت على صدرها ما أن فتحت الباب ووجدتها تقف على الباب بوجهها الشاحب الملىء بالدموع وهندامها الغير مرتب ويوسف يسندها ليمنعها من السقوط فقال لها "أمي أرجوكي" وأشار لها لتسمح لهم بالدخول ففتحت الباب أكثر وإبتعدت عن طريقهم فدخلا وجلسا على أقرب كرسي بالصالون....
جلست والدة سارة وهي تضرب على وجهها بعد أن عرفت ماحدث وتتمتم "يا إلهي، يالهوي يابنتي، يالهوي" وهنا فتح أمين الباب ودخل فقد إتصل به يوسف وأخبره أنه سينتظره لأمر هام...
"مساء الخير" قال أمين ما أن وصل منزله في حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً ليجد يوسف وسارة وزوجته يجلسون بصالونهم القديم بالصالة وسرعان ماقطب جبينه عندما نظر لسارة والحالة التي عليها زوجته...
"يوسف ما الأمر؟" سأل أمين يوسف وهو ينظر لسارة ولزوجته فأمسك يوسف بذراع أمين وجعله يجلس بجواره ثم راح يخبره بما حدث
"أنا لن أسكت ، سأقدم بلاغ بهذا الحيوان أنا أعرفه جيداً وأتذكر رقم سيارة الأجرة وهناك العديد من الشهود سأجعله يندم عما فعله هذا الحيوان" صرخت سارة مقاطعة حديث يوسف مع والدها ما أن قص ماحدث، وهي تبكي بشدة، فنظر لها أمين والغضب والألم يجتحانه ثم أغمض عيناه وصمت، فوقف يوسف وأمسك بسارة التي وقفت وهي تصرخ ليهدأها فأكملت "ساعدني يايوسف، هيا بنا، هيا نذهب للشرطة، هذا مايجب أن يحدث" فرد يوسف "سارة أرجوكي إهدئي لنتحدث" فصاحت "نتحدث بماذا علينا أن نسرع ليقبضوا عليه قبل أن يهرب" فقال يوسف "حسناً حسناً، إهدئي وسنرى" وهنا صاح أمين "سااااارة" فصمتا ونظرا نحوه فسألها بقلق "هل حدث لك شىء؟ هل إستطاع أن" فهزت رأسها بسرعة وقالت "لا لا لم يفعل لكنه" فقاطعها"إذن لا داعي لشىء....لن نستفيد شىء سوى الفضيحة" فقطبت سارة حاجباها وهي لا تصدق ماتسمع وقالت "فضيحة؟!....هذا كل مايهمك؟..." وضحكت بتهكم وأكملت "حقاً" ثم توجهت نحوه وقالت بإستنكار "يالك من أب، لا تعجبك تربية أبي وأمي التي جعلتني إنسانة" ثم صرخت بوجهه "وتفتخر بتربيتك التي جعلت المجتمع ملىء بالحيونات" فإتسعت عيني أمين وصاح "كيف تجرؤين" ثم صفعها بقوة على وجهها..
شهقت والدة سارة وإتسعت عيني يوسف في ذهول ثم أسرع وأمسك بذراع سارة وقال وهو يأخذها لغرفتها "بالطبع لم تقصد ياعمي" ثم فتح غرفتها وجعلها تجلس
"سارة إهدئي وإسمعيني جيداً" قال يوسف لسارة والدموع تنهمر من عيونها بعد أن أزاح يدها من على خدها، فإلتفتت ونظرت له وهي تشهق وتبكي فقال لها "إسمعيني دعينا نتزوج الآن بدلاً من بعد شهر" فعقدت حاجباها ونظرت له وهي لا تصدق أنه يطلب هذا في مثل هذا الموقف فأكمل "سارة إسمعيني، وأنتي بعيدة عني لا أستطيع أن أحميكي وليس بيدي شىء أصنعه معك، على عكس عندما تكونين زوجتي سيكون الأمر لي، من ناحية أخرى لا أشعر بوفاق بينك وبين أهلك منذ أن جئتي لذا أرجوكي وافقي" فنظرت له وقد توقفت دموعها وقد بدأت تقتنع برأيه، فأكمل وقد إقترب منها قليلاً "شقتنا جاهزة ولاتقلقي من ناحية الدعاوي أما الفرح إن كنا سنقيمه بالشارع فلا توجد مشكلة للحجز لذا دعينا نتزوج" فنظرت له قليلاً فنظر لها وكأنه يرجوها فمسحت دموعها وأومأت له بالموافقة
خرج يوسف وأخبر أمين بقراره ووافقوا على إتمام الزواج يوم الخميس ليكون لديهم الجمعة يوم عطلة للجميع، فيوسف قد قدم على عطلة الزفاف بالفعل بعد شهر وتمت الموافقة عليها فلايمكنه الحصول على أخرى الآن لذا قررا الزواج الخميس وإستغلال الجمعة كعطلة رسمية على أن يكون شهر عسلهم في موعد عطلته وقد كان
"هيا ياسارة ياحبيبتي علينا البدء في نقل ماتحتاجين لشقتك اليوم فبعد غد هو موعد الزفاف" قالت والدة سارة لها وهي تضع ملابسها بحقيبة السفر، فنظرت لها سارة بحزن وقالت لها "إلى هذه الدرجة تريديني أن أذهب" فتوقفت والدتها عما تفعله ثم إلتفتت لها وجاءت وجلست إلى جوارها وقالت "نعم ياسارة، ولكن ليس كما تعتقدين" ثم دمعت عيناها وأكملت وهي تنظر لها "البيت هنالك كالجحيم، فلن تستطيعي تغير تفكير أحد هنا لا أبوك ولا أخوتك، إذاً فوجودك مع زوجك الذي يحبك أفضل من هنا ألف مرة، وصدقيني أنا أهون على نفسي بوجودك بالقرب مني فلن تبتعدي كثيراً" فنظرت لها سارة ورق قلبها فإرتمت بحضن أمها فضمتها لها أمها بقوة وهي تربت على ظهرها.
جمعت سارة كل ماتحتاجه بالحقائب وذهبت هي ووالدتها وأميرة إلى شقتها ورتبت حاجتها هناك، إحتاج الأمر لمجهود شاق خاصة بعد أن تركتهم أميرة وعادت لمنزلها، سهروا هم لمنتصف الليل وقام يوسف بتوصيلهم ما أن إنتهوا.
نام الجميع بسعادة لأجل زواج سارة ولم تحتاج سارة لأي مساعدة مادية من أحد فقد كتب لها عمها وخالتها كل مايملكان بيع وشراء، الأمر الذي فاجئها بعد موتهم، إلا أنها حمدت الله لاحقاً، لكن مع بزوغ الفجر إستيقظ الجميع على صوت طرقات قوية على باب الشقة...
"ماهذا ما الأمر؟" قال أمين بعد أن إستيقظ مفزوعاً على صوت تلك الطرقات، وبدأت الأنوار تضاء من غرفة لأخرى، حتى أضاء أمين نور الصالة وإتجه نحو الباب...فسأل أمين "من؟" فرد الطارق "أنا يا أبي إفتح أرجوك"...
"أنا يا أبي إفتح أرجوك" جاء صوت أميرة الباكي عبر الباب، فعقد أمين جبينه بقلق وفتح بسرعة، وما أن رأى وجه إبنته الباكي وهي تحمل طفلها على كتفها وتمسك بيد طفلتها وبالأخرى حقيبة كبيرة تحتوي على ملابسهم حتى قال "أميرة مابك؟" فأجابت باكية وهي تدخل وقد تركت الحقيبة على الأرض ودخلت "خانني ياأبي، خانني لن أعيش معه لحظة أخرى، أبداً يا أبي أبداً" قالتها وهي تضع الطفل على الأريكة فسألها وهو لايفهم عن من تتحدث "من؟" فأجابت بدموع وقد جلست وإلى جوارها طفلها النائم وإبنتها تقف بجانبها "صلاح يا أبي، زوجي خانني ، يخونني منذ سنة وأنا لا أعرف، أعطيه مرتبي كله، وأهتم بالأطفال وبالمنزل وهو يتركني ليذهب ويكون معها ، سنة، سنة يا أبي وأنا لا أعرف شىء، غافلة عنه لثقتي التي بلا حدود فيه، وأعطيه دائماً العذر بأنه يتعب لأجلنا، لذا هو مشغول عني وعن أطفالي، المعيشة صعبة والأسعار مرتفعة لذا مرتبه لا يكفي، فأكد وأتعب أكثر لأجله، ولا أشتكي...وبالنهاية أجده أنه كان يذهب إليها يومياً، ويجلب لها الهدايا وأنا" وهنا صمتت وطأطأت رأسها للأرض وراحت تبكي بشدة، فجلس والدها بجوارها وربت على كتفها ليهدأها ثم سألها "وكيف عرفتي؟" أجابت "تركت أمي وسارة لأذهب قبل أن يعود وبالفعل ما أن إنتهيت من إعداد الطعام حتى وصل ودخل ليأخذ حمامه" ثم إلتقطت أنفاسها ومسحت بعض دموعها وأكملت "لكنه نسى أن يغلق هاتفه بالرقم السري، ورن هاتفه ولم يسمعه، فأمسكت به وأجبت وإذ بإمرأة تقول حبيبي إشتقت لك صلوحتي" بالطبع صدمت لكني نظرت إلى إسم المتصل وجدته مكتوب عليه قلبي ولما لم أجيب أنهت المكالمة، فبحثت في الهاتف عن االرسائل التي منها" وأكملت وهي تبكي بحرقة "ورأيت كلام ومواعيد وصور" ثم راحت تبكي أكثر...
لم تنتهي أميرة من حديثها حتى سمع الجميع صوت طرقات مرتفعة أخرى على الباب فأسرع أيمن وفتح الباب فإذ به صلاح...
"أميرة حبيبتي" قال صلاح وقد أسرع نحو أميرة فصاحت به "حبيبتك!...أنت مخطأ في العنوان إذهب إليها لا لي، إبتعد عني" ثم تركته ودخلت غرفة سارة فلحق بها صلاح وقال لها "أميرة لا تظلميني" فردت بدهشة "أظلمك؟! ....لقد سمعت صوتها تناديك بدلال، ورأيت صورك معها وأنت تضمها إليك، وقرأت رسائلك إليها ورسائلها لك وبعد كل هذا أنا من يظلمك؟" فرد عليها "حبيبتي أرجوكي أعطني فرصة، أنت على حق ولك كل الحق في الغضب لكن إسمعيني، لقد كانت نذوة عابرة منذ زمن صدقيني وقد إبتعدت عنها لكنها تحاول معي لنعود وأنا أرفض صدقيني" فنظرت له قليلاً ثم قالت "إذاً خنتني بالفعل؟!" فصمت ولم يجيب
"صلاح" نادى أمين صلاح بحزم فإلتفت له وذهب إليه، فأخذه أمين ودخلوا إلى الشرفة يتحدثون، وبعد حوالي ساعة دخل كلاهما وتوجه أمين نحو أميرة وقال لها "أميرة صلاح أخبرني بكل شىء بصراحة ووعدني أن ماحدث لن يتكرر وسيعتذر لك بالطريقة التي تريها"...
كانت أميرة تجلس هي وسارة ووالدتها على السرير وقد أحاطت أميرة بذراعيها ركبتيها وأسندت رأسها عليهم، لذا عندما جاء أمين رفعت رأسها والدموع لاتزال تملأ وجهها وما أن أنهى أمين كلامه حتى نظرت عبر الباب إلى صلاح الواقف بالصالة ينظر لها وقرأت سارة بدأ صفح أختها له....
"ستسامحينه أليس كذلك؟!" سألت سارة أختها بإستنكار فنظرت لها أميرة ولم ترد، فقال أمين "لا تتدخلي أنت ياسارة" ثم إلتفت لأميرة وقال "هيا لتعودي مع زوجك" ثم تركهم وذهب فأعادت سارة السؤال "حقاً ستعودين معه؟!" فإبتلعت أميرة ريقها ولم تجب فقالت والدتها "سارة لا تقسي على أختك، ماذا عليها أن تفعل هل تدمر بيتها بيدها" فنظرت سارة لهم وضحكت بتهكم ثم قالت "أنتم تعلمون كم أحب يوسف بل أعشقه، لكن إن فعل معي مافعله زوجك لحذفته من حياتي إلى الأبد" ثم تركتهم وخرجت من الغرفة...
في المساء كانت سارة قد ضبت كل أغراضها وفرشتها بشقتها، وأعدت كل شىء الفستان ومصفف الشعر وكل شىء لأجل زفافها باليوم التالي، ثم دخلت وأخذت حمامها وما أن إنتهت وخرجت منه وقفت على باب غرفتها تتأمل منزل والدها وهي تتذكر الخمس أيام التي عاشتهم فيها، كانوا بخلاف موت والديها أغرب وأشق خمسة أيام عاشتهم لكنها الآن على أعتاب حياة جديدة، حياتها هي، وهي من ستضع قواعدها، فأخذت نفس عميق وإبتسمت ثم دخلت ونامت.
"لولولو لولولوي، لولولو لولولوي" علت الزغاريد وملأت الدنيا لتعلن نبأ هذا الزفاف السعيد بين أجمل عروسين، ولمعت عيني سارة وهي تنظر لنفسها في المرآة، حقاً كانت عروس بارعة الجمال بفستانها الأبيض اللامع الضيق على الصدر وحتى الخصر ثم ينزل منفوش وكأنه لملكة من الأساطير، بأكمام طويلة لكن دون أكتاف والأقراط والمشغولات الذهبية تلمع بأذنها وعلى صدرها وهي ترفع شعرها البني الفاتح لأعلى كأميرة جميلة..
خطف جمال سارة عيني يوسف وأنفاسه حتى أنه وقف مذهولاً لعدة دقائق قبل أن يستطيع أن يتقدم ليمسك يدها ويضغها بذراعه ويأخذها من عند مصفف الشعر، وكما فعلت سارة فعل يوسف وأخذ أميرها الذي تعشقه ببذلته السمراء قلبها أكثر، وأشعرها أنها بمكان أخر لايوجد فيه إلا هو....
دقائق وعلت الزغاريد مرة أخرى لتعلن خروج العروسان من عند مصفف الشعر ومنه إلى المراسم الرسمية لإتمام الزواج ومن ثم إلى الإحتفال المعد بشارعهما ولولا بعض المشاحنات مع بعض المتدخلين والمشاغبين لكانت الليلة ممتازة، فقد كانت سارة تحلم دائماً بزفاف شعبي على غرار مارأته بالأفلام العربي القديمة.. إنتهى الحفل وسار العروسان نحو شقتهم ودخلا كلاهما إلى شقتهم بالدور الثالث بمنزل والدي يوسف، وما أن أغلق يوسف الباب حتى قفز قلب سارة من مكانة وإمتلأت عيناها بالسعادة لرؤيته أمامها، هي له وهو لها وعضت على شفتها السفلى من الخجل وما أن إلتفت لها حتى طأطأت رأسها بخجل فإبتسم هو وهو ينظر لها بكل حنان وشوق ولايعرف ماذا عليه أن يفعل لشدة سعادته بأنها قد أصبحت أخيراً له، وأخيراً جاءت اللحظة التي طالما حلم بها منذ اللحظة التي وقعت عيناه عليها بإنجلترا لكن ما أن تقدم نحوها بضع خطوات حتى قرع أحدهم باب الشقة.
عقد يوسف جبينه وهو ينظر لسارة بدهشة وهز رأسه وكأنه يسألها من الطارق، فهزت كتفيها وكأنها تجيبه بأنها لا تعرف فدق الطارق الباب مرة أخرى فأخذ يوسف نفس عميق ونفخه ثم هز أكتافه بإستسلام وعاد ليفتح الباب...
"أمي!، عمتي!" قال يوسف بدهشة عندما وجد والدة سارة ووالدته أمامه ودخلتا كلاهما..."ما الأمر؟!" سأل يوسف وسارة تنظر لهما بإهتمام فأجابت والدته "قد نسيت هذه" وأعطته منشفة بيضاء فإتسعت عيناه قبل أن تجيب وخطفها منها وألقاها بعيداً وصاح "أمي؟!" فأجابت "ما الأمر؟ هذه عوائدنا وعليك إتباعها" ثم همست له "لا تنس أنها تربت في الخارج" وهنا فهمت سارة الأمر وصاحت "ماااااذا؟!" فتدخلت والدة سارة وقالت "لا خارج ولا داخل إبنتي كالجنيه الذهب وستثبت الليلة ذلك" فإتسعت عيني سارة وفمها بات مفتوحاً وهي تحاول قول شىء لترد عليهم لكن لشدة مفاجئتها لم تجد الكلمات لتخرج فردت والدة يوسف عليها وقالت "سنرى هيا بنا" وأخذت والدة سارة وخرجت...
"أمـ أمـ أمي تقـ" قالت سارة وهي تشير بسبابتها في إتجاههما حيث أغلقت والدة يوسف الباب بعد أن خرجوا، فأيقظ يوسف نفسه من دهشته وإتجه نحو سارة وأسرع لينهي دهشتها ويخرجها من مفاجئتها، فقاطع كلماتها وطبع قبلة على شفتيها وقال "دعك منها" لكنها أكملت وهي تنظر نحو الباب ولا تزال في ذهول مما قالتاه وكأن القبلة الأولى لم تستطع جعلها تنسى الأمر "و، ووالدتك تقول، أتعني أني، لأني" فقاطعها مرة أخرى بقبلة أعمق بعد أن إقترب منها أكثلا وقال وهو ينظر بعيونها "إنسها أيضاً" وهنا دق قلبها بعد أن شعرت بحرارة قبلته وقالت وقد بدأ خجلها يعود "ماذا تفعل؟" فإقترب منها وأمسك بوجهها وقبلها قبلة أعمق وأطول فرفعت ذراعيها وتوقت رقبته وبادلته الأمر وبالنهاية إبتعد عنها قليلاً وإبتسم ثم حملها ودخل إلى غرفتهم وأغلق الباب.
إستيقظت سارة على صوت دندنة يوسف وهو يقف بالمطبخ ، ورغم صوته الأجش إلا أنه لم يزعجها او يوقظها، في حقيقة الأمر هو لم يفارقها لحظة، وصوت همساته لها ظلت ترن بأذنها حتى بعد أن نامت، وتفاصيل الليلة الماضية تجول بتفكيرها وجعلتها تشعر بالسعادة لم تحظى بها يوماً...
"صباح الخير...حبيبي" قالت سارة وهي تقف على باب المطبخ حيث وجدت يوسف يضع الجبن بالطبق، فنظر لها وإبتسم وقال "بل مساء الخير ياعمري" وأسرع وخطف قبلة من شفتيها فأجفلت للحظة ثم وضعت يدها على شفتيها وعلت حمرة الخجل وجهها، فضحك هو ثم قال "كنت أود أن أتي به إليك بالسرير" فنظرت له قليلاً ثم قالت "أحبك" فأجاب وهو ينقل البيض المقلي من المقلاة للطبق لكنه ينظر لها "وأنا أيضاً" وهنا سكب بعضاً منه على يده فتمتم "آه" فأسرعت نحوه وأمسكت بيده فإلتفت لها وترك المقلاة من يده وكأن لمست يدها كانت أشد تأثيراً عليه ووضع يده خلف رأسها وقبلها مرة أخرى وتركا الطعام....
أخذ كلاً منهم حمامه، وإستعدا ليتناولا الطعام إلا أن صوت طرقات عديدة دقت على الباب فقالت هي "أعتقد هذه صنية الصباحية كما في الأفلام" فهز رأسه بالإيجاب وقال "نعم ومن المؤكد أنه أفضل من بيضي المقلي البارد" فضحكا كلاهما وذهب يوسف وفتح الباب..
"لولولولولولوي، لولولولولولوي" علت زغاريد أم أيمن وتبعتها أم يوسف بأخرى أطول ثم وضع هادي ، وعادل الصواني وتبعهم أمين ووحيد وأخوتها أيمن وهشام وأميرة وزوجها صلاح...
كانت سارة ترتدي فستان فوشيا ذو أكمام قصيرة يتعدى طوله الركبة ويتناسق مع جسدها الرشيق حتى الخصر وينزل منفوخ قليل على غرار فساتين السبعينات كما كانت تحبها سارة وقد صنعت بعض منهم لأجل زواجها، أما يوسف فقد كان يرتدي بيجامته البيضاء...
"مبروووك ياابنتي" قال أمين لإبنته ووضع بيدها بعض النقود "النقطة" وكذلك فعل وحيد ووالدتها ووالدة يوسف وفي كل مرة تنظر بخجل نحو يوسف وقليلاً وبعد أن تناول الجميع مشروبهم نادت والدة سارة إبنتها ودخلتا إلى غرفة النوم...
"أين هي؟" سألت أم أيمن إبنتها ما أن أغلقت الباب خلفهم، فعقدت سارة حاجباها وهي لا تفهم قصدها فقالت "ماهي؟" فأجابت "المنشفة البيضاء" فقطبت سارة جبينها وقالت "أمي أرجوكي لا تفعلي مثل هذه الأشياء الرجعية" فقالت لها "ليس أنا يا إبنتي لكن حماتك هي من تشكك، هي من الأساس لم تكن موافقة على هذا الزواج وتضع هذا الأمر حجة لها" فنظرت لإبنتها الغاضبة وقالت "لا تصدقيني؟ حسناً سترين" وهنا دق الباب ودخلت والدة يوسف..
"هل رأيتها؟" سألت أم يوسف أم أيمن ولم تجب فإبتسمت ورفعت حاجبها وهي تنظر شذراً لسارة فإتسعت عيني سارة بذهول مما يحدث وهنا لمح يوسف ثلاثتهم والتعبير الظاهر على وجه سارة فأسرع وإستئذن الجميع ودخل إليهم..
"ما الأمر؟" سأل يوسف ثلاثتهم فردت سارة وهي تكظم غيظها وتنظر لوالدتها ووالدته "يسألان عن اللفافة البيضاء"، فأغمض يوسف عيناه لبرهة ليكظم غيظه هو الأخر وأخذ نفس عميق زفره ببطء ثم إلتفت لوالدة سارة وسألها "أمي هل تثقين بسارة؟" فأجابت بسرعة "بالطبع، ماذا تقول؟ لكن أمك" وصمتت فأومأ برأسه بالإيجاب وإلتفت لوالدته وسألها "أمي هل تثقين بي؟" فأجابت "بالطبع ولكن" فقاطعها قائلاً "حسناً هذا جيد جداً، إذن" ثم جاء ووقف بجوار سارة ووضع يده على كتفيها وقربها له وقال "أنا وسارة بخير وبأفضل حال ونؤكد لكم هذا، وأرجوكم كفاكم تدخل في حياتنا، وعفواً لكن هذه أخر مرة سأسمح بأي شخص حتى لو كان والدينا بالتدخل في شئوننا ولو بسؤال" فإتسعت عيني الإثنتان بذهول وشعرتا بالإحراج فإبتسمت سارة وإلتفتت لزوجها وتعلقت برقبته وقبلته وضمها هو له مرة أخرى بقوة، ونسى كلاهما أمرهما فإرتبكت المرأتان وسارعتا بالخروج وخرجتا مسرعات وهن ينادين الباقي حتى غادر الجميع الشقة...
مر اليوم الأول بزواجها وحل السبت اليوم الثاني، وقفت سارة على باب شقتها تودع حبيبها وزوجها بقبلة وعيونها ترفض أن يغيب عنها، وكذلك كان شعوره أيضاً لكن ليس بيدهما حيلة، فبسبب تقدم موعد زواجهما لم يستطع يوسف الحصول على أجازة إلا بعد شهر، على عكسها قد وافق أستاذ مصطفى ومحمد على إعطائها يومين بالإضافة ليومين الجمعة والسبت الأجازة الرسمي لها...
راقبت سارة يوسف حتى ركب سيارته وإنطلق بها، وتابعته حتى غابت عن عينيها فإبتسمت ثم دخلت وجلبت ملابس مبللة قد قامت بغسلها في الصباح ووضعتها على الحبال ثم أعدت كوب من الشيكولاته الساخنة ووقفت بالشرفة لتشربها..
وقفت سارة تبتسم وهي تنظر نحو السماء وهي تتذكر أحداث اليومين المنصرمين وكم إختلف الأمر كثيراً عن تلك الأيام التي قضتها في بيت أبيها، فمنذ أن أتت والحزن يزحف على قلبها وكاد يمتلكه، لولا يوسف الذي أصر أن يأخذها من هناك ليحميها، ومن حينها وقد عادت السعادة لقلبها وحلت محل الحزن، وكأن والديها شريف وهند قد عادا للحياة، وإزداد الأمر عندما واجه والدته ووالداتها، ورفض تدخلهما وهنا لمعت عينيها وشعرت بالشوق له أكثر فتنهدت وهي تبتسم..
"سااااااااارة صباح الخير" قاطع صوت أم يوسف تفكير سارة وهي ترف رأسها وتناديها من الطابق الثاني (السفلي) فتنبهت سارة وطأطأت رأسها لتجيبها حيث كانت شقتها بالطابق الثالث وقالت "صباح النور يا أمي" فأشارت لها بيدها وهي تقول "أدخلي أريدك" فعقدت سارة جبينها لكنها دخلت وخرجت لها على السلم...
"سارة أنتي إبنتي، أنتي تعرفين هذا" قالت أم يوسف لها بعد أن نزلت لها سارة ووقفتا على السلم فأجابت "بالطبع يا أمي" فأكملت وهي تمسك بأكمام البيجامة التي ترتديها سارة "لايمكنك الوقوف بالشرفة بهذه الملابس" فقطبت سارة جبينها وقالت "مابها ملابسي لايوجد فيها شىء مكشوف"....
كانت سارة ترتدي بيجامة بأكمام قصيرة من القطن المصري الأصلي لكن غير ذراعيها لم يكن هناك شىء أخر، لذا شعرت سارة بالضيق، وفهمت أن الأمر لن يكون سوى محاولة فرض تحكمات عليها...
"أمي أنا سأصعد لشقتي" أجابت سارة حماتها وهي تحاول إنهاء الجدال فقالت لها "إنتظري هناك شىء أخر" فوقفت سارة ونظرت لها وقالت "الملابس التي على الحبل لايصح نشرها ، عيب ياإبنتي، قميص نومك تضعينه بالداخل" فعقدت سارة حاجباها وقالت "أمي أولاً أنا أضع أمامه ملابس يوسف والروب لذا فلا يرى أحد شىء سواك" ثم قالت بحزم "عن إذنك" وتركتها وصعدت لشقتها...
وقفت سارة بالمطبخ وقامت بإعداد الطعام ليوسف وهي في منتهى السعادة، وفي كل مرة تتذوق الطعام تهنأ نفسها وتتخيله وهو يتناوله، ولحسن الحظ لم يتأخر يوسف وإتصل بها قبل أن يصل فأعدت الطاولة وإرتدت قميص نوم من اللون الزهري الفاتح وتأنقت بروائح تسحر الروح، وما أن سمعت صوت مفتاحه حتى طارت إليه وتلقاها هو بين ذراعيه وألقى بجاكته وحقيبته على أقرب مقعد وضمها إليه وراح يقبلها ...
"واو يبدو الطعام شهياً، مثل التي أعدته" قال يوسف وهو ينظر للطعام بعد أن بدل ملابسه وجلس على الكرسي أمام الطاولة البيضاء الطويلة فعضت سارة على شفتها وضربته ضربة خفيفة بدلال، فأمسك بيدها وقبلها فضحكت بخجل ثم قالت له "هيا كل وقل لي رأيك" فأجاب "هل يمكن الإجابة الآن" فضحكت مرة أخرى وقالت "حقاً" فإبتسم وأومأ برأسه بالإيجاب وأمسك بالملعقة وما أن رفعها ناحية فمه حتى دق جرس الباب...
"ترى من؟" سأل يوسف سارة بدهشة فهزت كتفيها بحيرة فأعاد الملعقة وفتح الباب وإذ بولدته تدخل وهي تحمل صنية كبيرة موضوع عليها أشهى المأكولات وتبعها وحيد...
"قلت أنكم عرسان فأحضرت الغداء لنتناول الطعام سوياً" قالت والدة يوسف وهي تضع الصينية ووحيد يساعدها فإتسعت عيني يوسف وسارة وهما يتبادلان النظرات المتفاجئة فقال يوسف "ولكن أمي" فقاطعته "قد وقفت منذ الصباح أعد لك المأكولات التي تحبها هل ستحرجني وترفضها" فنظر يوسف لسارة وتنهد بضيق، ثم قال "بالطبع لا" وجلس بجوار والديه على كرسي الطاوله....
وقفت سارة تحدق بزوجها وقد جلس وبدأ بالفعل بتناول الطعام التي أعدته والدته بعج أن أزاحت أطباقها جانباً، وكادت تفلت الدموع من عينيها فقالت لهم "عفوا أحتاج للحمام" ودخلت مسرعة واغلقت الباب وهنا وضعت يدها على فمها وإجهشت بالبكاء وشعرت أنها قد هربت من جحيم والديها إلى جحيم أخر ستفرضه عليها حماتها..
ما أن خرجت من الحمام وتوجهت نحو المطبخ وهي تتظاهر بإعداد الشاي لهم حتى لحق بها يوسف وبالكاد تناول شىء من الطعام فقد ايقن أن الأمر سيضايقها جداً لذا أسرع ولحق بها...
"حبيبتي" قال يوسف بعد أن دخل المطبخ وأحاط خصر زوجته بذراعه وهو يقف خلفها، ثم أكمل وقد ضمها له "عزيزتي أعتذر" فتوقفت عما تفعل وتوقفت عن التظاهر أيضاً ثم إلتفتت له ليجد عيناها حمراء كالدم فقال "ياإلهي، إلى هذه الدرجة" فأجابته "أنا لا أكرهها يايوسف، لكني حقاً أخشى على حياتنا من تدخلها وأنه لو بدأ الآن سيستمر طوال العمر" فأمسك بكلتا يديها وقبلهما ثم نظر إليها وقال "لا الآن ولا لاحقاً ليكون باقي العمر، أنا فقط جلست لأجل تعبها ليس أكثر، لكن ليس رضوخاً لرأيها أنا لا أرضخ لأحد وأنتي تعرفيني" فنظرت له وقد بدأت إبتسامة تزحف لوجهها وسألته "حقاً" فأومأ برأسه بالإيجاب وقال بحنان وهو يبتسم "نعم" فتنهدت وألقت بنفسها بين ذراعيه وضمها هو إليه وكأنه يطمئنها....
"حبيبتي عفواً هل لي بكوب شاي أشعر بصداع سيحطم رأسي" قال يوسف لسارة وهو يوقظها مبكراً فتنبهت سارة وقالت له "بالطبع حبيبي بالطبع" ونهضت بسرعة وما أن أعدت له الفطار والشاي حتى وجدته قد إرتدى ملابسه وبسرعة تناول بعض الشطائر وشرب بعض من الشاي وقال لها "عفوا حبيبتي لكني تأخرت" ثم أسرع نحو الباب لكن قبل أن يخرج توقف وإلتفت نحوها، فجاءت له وقبلها ثم قال لها "لا تنسي أن تتصلي بي عندما تصلين للعمل" فأومأت برأسها بالإيجاب وتركها وخرج...
كاد قلب سارة يتوقف عندمل ظنت أن يوسف سينسى قبلتها قبل أن يخرج، مما يعني أن حياة الزواج الروتينية ستبدأ بينهم، خاصة بعد ما حدث بالأمس من والدته على الغداء وإدعائها المرض في المساء، مما أضاع عشاء على ضوء الشموع كانت قد أعدته، ومع أن يوسف حاول أن يعوضها عندما عاد، وجلسا سوياً لمشاهدة فيلم، إلا أنه ما أن أسند رأسه على رجلها حتى غط في نوم عميق...
إرتدت سارة ملابسها بعد أن شربت كوب من اللبن، ونزلت وركبت سيارتها الحمراء الجديدة التي إشتراها لها يوسف كهدية لزواجهما، وإنطلقت نحو عملها ومع أنها كانت سعيدة لعدم ركوبها الحافلة إلا أن سعادتها لم تدم طويلاً....
"حاسبي ياست"، "ياخربيت اللي علمك السواقة ياشيخة"، "ماتقعدوا في بيوتكم بقى قرفتونا" كانت هذه بعض من تعليقات المارة والسائقين عليها وهذا والخطأ ليس خطأها فهناك من إخترق إشارة المرور أو من يريدها أن تسرع أكثر من الحد المسموح ، وهناك من لاينظر إلى أين تطأ قدمه وهناك من يريد أن يسبقها فقط على الطريق وأخر كل مايريده هو مضايقتها فقط لأنها إمرأة....
أخيراً وصلت سارة إلى عملها، وما أن دخلت حتى قابلها الجميع بالتهنئة على الزواج من الساعى عم حسين لأمير لسحر وحتى أستاذ مصطفى لكن تهنئة أستاذ محمد كانت مختلفة....
"ألف مبروك أنـ، أقصد مدام سارة" قالها وهو ينظر لها بإستخفاف ثم أكمل وكأنه يؤكد على كلام سابق "أتمنى أن تكوني قد حظيتي بأجازة سعيدة في بداية عملك معنا" فهمّت سارة لتوضح له الأمر، وأنها قد تعرضت لمحاولة للخطف إلا أنه أوقفها وقال "لا تقولي شىء أنا أتفهم الأمور وقد توقعتها" ودون أن يتيح لها الفرصة للدفاع عن نفسها أصدر الحكم أنها لا تنفع في شىء وأن لا قيمة لها سوى أنها صورة لمشاركة المرأة للرجل في العمل أمام الإعلام وجمعيات حقوق المرأة.
أغمضت سارة عينيها في ضيق، وهي تتابع أستاذ محمد وهو يبتعد بعد أن تركها دون أن يسمع كلمة منها، ثم فتحتهما وهزت رأسها بحزن وجلست على مكتبها، وقليلاً إذ بعم حسين يعطيها دفتر يشبه تلك الدفاتر التي مع سحر، فضحكت بدموع ثم أخذت القلم ووقعت علي إستلامه وراحت تعمل به...
مع دقات الساعة الواحدة كانت سارة قد أنهت عملها بالدفتر ووضعته إلى جوارها إستعداداً لتسليمه غداً، إلا إنها فوجئت بسحر تخبرها أن ماقامت به هو عمل الشهر كله والتسليم سيكون بعد خمسة وعشرون يوماً بالضبط، فضحكت سارة دون تعليق ثم وقفت وإنصرفت .......
كما حدث أثناء مجيئها حدث أثناء العودة ولم تنجو من التعليقات المستفذة لها لأنها إمرأة وتقود سيارة، ومع هذا لم تترك ذلك يزعجها فهي مصرة على تعويض ليلة أمس فهما لايزالان متزوجان حديثاً، فأسرعت وعادت للمنزل وقامت بإعداد طعام شهي وتنظيف وتوضيب الشقة وغسل الصحون والملابس إلى أخره، وما أن إنتهت حتى أعدت الطاولة ثم تأنقت وجلست في إنتظار وصول يوسف...
إتصلت به حوالي الساعة الثالثة فأخبرها أنه سيخرج حالاً، لكنه لم يأت فإتصلت به في الثالثة والربع لكنه إعتذر وأخبرها أن لديه عمل وسيتأخر قليلاً
أخيراً مع دقات الساعة الخامسة دخل يوسف المنزل، ووجد سارة تسند رأسها على ذراعها وهي نائمة على الطاولة..
"سارة" أيقظ يوسف سارة بهدوء ما أن دخل إلى الشقة فتنبهت وفتحت عينيها ثم قالت له وهي تبتسم "يوسف" فرد "نعم حبيبتي" فقالت "حمداً لله على سلامتك" ثم تذكرت الطعام وقالت "من المؤكد أنك جائع، سأقوم بتسخينه حالاً و" فقاطعها "لا حبيبتي قد تناولت الغداء مع رفاقي بالعمل" فنظرت له وقد تلاشت إبتسامتها وقالت "آه عفواً" فقال لها "كلي أنتي و" فقاطعته "أنا أيضاً تناولت غدائي لا تقلق" ثم تركته وراحت تجمع الأطباق لتضب الطاولة...
لم يظل يوسف مستيقظ لمدة طويلة، فقط لساعة واحدة غط بعدها في نوم عميق من شدة الإرهاق تاركاً سارة وحدها، فتنهدت وتمددت إلى جواره حتى الصباح...
"سارة هل أعددتي لي كوب الشاي بسرعة" قال يوسف لسارة وهو يوقظها ولا يعلم أنها قد غفت مع بزوغ الفجر، وقد سهرت تفكر فيما حدث لها وسيحدث، منذ أن جاءت أهلها عملها وأهل زوجها بل وزوجها نفسه دوامة لاتفهم كيف دخلت فيها.
"حسناً حببيي" ثم نهضت بسرعة وأعدت الفطار وكالعادة تناوله بسرعة ورشف بعض من الشاي ونزل بسرعة لكن هذه المرة نسى توديعها....
وقفت سارة تتابعه من الشرفة حتى إبتعدت سيارته، ثم دخلت وإستعدت للذهاب إلى العمل ومثلما حدث بالأمس حدث اليوم، لكنها إعتادت الأمر وعلى عكس غضبها بالأمس إبتسمت وهي تسمع التعليقات وتجاهلتها.
وصلت سارة عملها على الوقت تماماً، ودخلت لتجد أمير غارق بالعمل وأستاذ محمد يوبخه على التأخير في تقديم المخطوطات، فنظرت لهما وإبتسمت ثم جلست أمام مكتبها وأمسكت بكوب الشاي الساخن الذي أتى به عم حسين لها، وراحت تحتسيه متجاهلة مايحدث مع محمد وأمير وعندما حان موعد الإنصراف نهضت وغادرت في هدوء...
الفصل الخامس
لم يتملك الإحباط سارة في علاقتها مع زوجها مثلما تملكها في العمل، خاصة وأن اليوم هو ذكرى أول لقاء لها مع يوسف حين إعترف لها بحبه، لذا خرجت بسرعة من العمل وهي سعيدة إلى محل مصوغات وإختارت له ساعة ذهبية لعلها تذكره في كل وقت بها، ثم تسوقت لشراء الزينة وإشترت كيكة على شكل قلب أحمر مزين بأنواع من الشيكولاته اللذيذة، ثم ذهبت للسوق وأتت بالطعام الذي يحبه، وبسرعة مذهلة عادت للمنزل وطهت الأصناف التي يعشقها وأعدت طاولة كبيرة. وزينت غرفة ببلالين على شكل قلوب جميلة...
بالنهاية ألقت سارة نظرة على الشقة وشعرت أن كل شىء في أبهى حلته، حتى هي إرتدت نفس الفستان التي إرتدته في ذلك اليوم، ونظرت للساعة وإذ بها تدق الثالثة موعد عودة يوسف .. حبيبها
الثلاثة والنصف إنتظرته لكنه لم يأت فإتصلت به "ألو ، يوسف" فرد عليها وهو مشغول ولم ينتبه للساعة "نعم حبيبتي" فقالت له "أين أنت؟" فأجاب "بالعمل أين سأكون" فردت "حتى الآن! إنها الثالثة والنصف" فقال "أووه، حسناً حسناً سأعود إلى اللقاء" ثم أنهى المكالمة
إنتظرته سارة لكن هذه المرة قد تعدت الساعة السادسة والنصف وشعرت بالقلق عليه فإتصلت لكنه ألغى المكالمة ففكرت أنه مشغول قإنتظرته للتاسعة ومن التاسعة للعاشرة والنصف وهو لايرد على هاتفه فشعرت بالقلق أكثر، وإتصلت بوالدها الذي أتى هو وأخوتها إليها...
الساعة الحادية عشر وهو لم يتصل وهاتفه أصبح مغلق وذهب أمين وأيمن وسألوا عليه بالعمل وإتصلوا بأعز أصدقائه.
حضر الجميع لشقة سارة والديها وأخوتها ووالدي يوسف وأقرب صديق له والجميع في قلق عليه ويحاول الوصول له
أخيراً مع دقات الساعة الثانية عشر منتصف الليل سمع الجميع صوت يوسف وهو يفتح باب الشقة، فأسرعت سارة نحوه ودموع خوفها عليه تملأ عيونها وقالت "يوسف" وضمته إليها أما هو فلم يفعل وظل واقفاً وهو يمسك حقيبته والجاكت على ذراعه والأخرى يمسك بها المفتاح ، فقد بدا عليه الإرهاق الشديد وبالكاد يفتح عينيه لكنه ما أن حضر وقد دار بعينيه على الموجودين حتى سألها "لما الجميع هنا؟" فرد أمين "شعرنا بالقلق عليك ياإبني سارة إتصلت بنا وأخبرتنا أن" فقطب جبينه وقطعه بغضب قائلاً "سارة إتصلت بكم!، جميعاً لما" فإبتعدت عنه وقالت "شعرت بالقلق عليك حبيبي" فرفع حاجبه وأكمل بتهكم وغضب "فناديتيهم ليبحثوا عن الطفل الصغير" ثم صاح "هل تظنين أني طفل ترسلين من يسأل عنه بالمدرسة ؟ هل فقدت عقلك تماماً الآن ياسارة" ثم راح ينتهرها أمام الموجودين و يلومها على إزعاج الجميع دون داعي وأن عليها أن تنضج فقد أصبحت زوجة الآن وليست طفلة فإقتربت منه وأمسكت يده لتهدئه "حبيبي أنا" لكنه أزاح يدها بعيداً عنه بقوة ثم تركها ودخل إلى الغرفة وأغلق الباب خلفه..
"أعتقد علىّ الذهاب" قال صديقه وهو يشعر بالإحراج وقالت والدة يوسف "ونحن أيضاً" ثم خرجت هي ووالد يوسف وهنا تكلم أمين وقال "أعتقد أنكما تحتاجان لمناقشة الأمر بمفردكما" ثم أشارة لزوجته وأولاده وخرجوا...
وقفت سارة بذهول وهي تراقب الجميع ينسحب بعد أن شعروا بالحرج من وقفتها وملأت الدموع عيونها أكثر وهي لا تصدق أن من أهانها وإنتهرها أمام الجميع هو زوجها وحبيبها التي ظلت طوال الوقت تعد له المفاجأت
لم يهتم لحالتها لم يعبأ لقلقها ومشاعرها لم يعرف كم تعبت طوال اليوم لأجله لتسعده لم يهتم بشىء ولم يلتفت لشىء ولم يتذكر بالطبع هذه المناسبة ولا هذا اليوم وكل ما أغضبه أنها جعلته يبدو كطفل صغير...فإبتسمت إبتسامة حزينة ثم دخلت إلى الغرفة المجاورة لغرفتهم ونفخت على الشموع لتطفأها وضبت طاولة الطعام ثم أغلقت باب الغرفة بحزن ونامت....
غفت سارة على الأريكة كما هي بفستانها لكنها إستيقظت هذه المرة مبكراً عن يوسف وأسرعت وأعدت له الفطار والشاي ووضعته على الطاولة وهي تفكر في أنها تصرفت وفقاً لمشاعرها وأحرجته دون قصد أمام الجميع، لكن ما أن توجهت نحو غرفة النوم لتوقظه إذ به يفتح الباب وهو يرتدي ملابسه ودون كلمة أو نظرة لها خرج وأغلق الباب بعنف...
وضعت سارة يديها على فمها وراحت تبكي بكاء مكتوم، لكنها أسرعت مع ذلك لتراقبه وهو يبتعد بسيارته وكعادتها راحت تدعو له بالسلامة والرزق على الرغم من دموعها التي بسببه...
"صباح الخير" قالت سارة وهي تتجه نحو مكتبها بعد أن تعرضت لمشادة كلامية هذه المرة مع أحد سائقي الحافلات بعد أن صدم سيارتها وأسمعها فيها من الألفاظ مالم تكن تفهم معناه لكن بالطبع وصل لها قصده، فرد أمير وسحر "صباح النور" وهما متعجبان من منظرها لم تكن هي سارة التي آتت لهم ببذتها الأنيقة السوداء كانت ترتدي تنورة سوداء طويلة إلى لأرض وواسعة وعليها قميص أخضر بأكمام ورغم جودة خامته إلا أنه غير مكوي بصورة جيدة، شعرها مربوط كذيل حصان هزيل من الخلف وشعرها مشعث قليلاً فوق رأسها فعقد أمير وسحر حاجبايهما وهما ينظران لسارة بدهشة، وهنا دخل أستاذ محمد ووجدها تسند رأسها على المكتب فقطب جبينه وصاح بها "أستاذة سارة لا يعني أنك متزوجة حديثاً أن تسهري طوال الليل وتأتي متأخرة عن مواعيد عملك، هناك مسئوليات موكلة لك عليك إتمامها لا أعرف هل عليا أن أشرح لك الأمر ثانية و...." إستمر محمد يلقى خطبة لسارة عن تقديس العمل وأهمية وقت العمل وهي لا تنظر له بل ولم تنهض حتى من على مكتبها ظلت تستمع له وهي تنظر أمامها ولم يكن بها قوة لأن تتجادل معه وتوضح أنها قد أنهت عمل الشهر كله وليس الجزء الصغير الذي يؤنبها عليه وأنها تأخرت بسبب ذاك الصدام مع الحافلة....
ما أن خرج محمد حتى أخرجت سارة كيس به بامية ووضعته أمامها، وطبق كبير وسكين ثم راحت تضحك وهي تهذبها، فقد كانت تتهكم على الأمر منذ أقل من أسبوع وهاهي تقوم به وظلت هكذا حتى إنتهت منها ثم ضبتها وهنا جاء موعد الإنصراف...
"الذهاب للسوق لشراء الخضار، شراء هدية لمولود إبن خالة يوسف، دفع فاتورة التليفون، شراء التموين" كانت سارة تعدد الواجبات التي عليها وهي تقود سيارتها وفجأة...BOW
إنفجر أحد دواليب السيارة ولولا عناية الله لإصطدمت بعمود فتوقفت وترجلت لترى الأمر فوجدته قد إنتهى تماماً، حاولت أن تطلب مساعدة من أحد لكن لم تجد، الجميع ينظرون يشاهدون ويسيرون في طريقهم، سألت عن أقرب ميكانيكي فوجدته بعيداً عنها كثيراً، فوجدت أن الحل هو أن تغلق السيارة وتغطيها وتترك الأمر ليوسف ليتصرف...
نظرت لهاتفها وإذ بطاريته إنتهت فبسبب ما حدث بالأمس نست شحنه، فتنهدت ثم إلتفتت لتوقف حافلة أو حتى سيارة أجرة، لكن كيف فهي في ساعة الذروة المرورية ووقت خروج الموظفين فهل ستجد أي منهم!....حاولت وحاولت لكن السيارات تسير كالصاروخ وجميعها كعلبة الساردين الركاب فيها يقفون ويجلسون ومنهم من يتعلق بالباب...
"حسناً السير رياضة للجسد والذهن" قالت لنفسها ثم بدأت السير من ميدان التحرير لباب الشعرية وهي تحاول أن تتجاهل مئات التعليقات والألفاظ التي تسمعها أو لا تسمعها "قمر لكنه منكوش، نعسان ليه ياجميل تعالى عندي وأنيمك، إيه مالك ياحلو....." وخلال هذا وجدت تفكيرها يأخذها للحظة وفاة والديها، وراحت تفكر فيما حدث لها منذ أتت وكم الأشياء التي أُجبرت عليها "سطوة وجبروت والدها الذي يخضعها كجارية لأخوتها، وسلبية وضعف والدتها وأختها، وتهميشها في العمل وتعريتها من قبل الجميع بالتحرش سواء بكلماتهم ونظراتهم التي تنهش جسدها أو حتى التجرء للمسها، تحكم حماتها، وبالأخير تجاهل زوجها لها" وراحت دموعها تسيل على خديها دون أن تشعر، وهنا مرت بجانب أحد السيارات المركونة ورأت إنعكاس صورتها في زجاجها ويالا العجب لم تتعرف على نفسها فراحت تضحك وتضحك دون سبب ، تضحك وتبكي، تشهق وتجلجل ضحكتها وهي لا تصدق ما أصبحت عليه من الداخل والخارج.....
أخيراً وصلت سارة لمنزلها لم تشعر بالوقت الذي مر عليها أثناء سيرها وأن من شدة حزنها وإحباطها لم تكن تسير فعلياً، فقد كانت تخطو خطوات لا تزيد عن بضع إنشات لكنها في النهاية مع دقات الساعة السادسة وصلت وقد إشترت بعض الخضروات فقط...
فوجئت سارة ما أن فتحت بالباب بمفتاحها، بيوسف يجلس على كرسي الطاولة وهو ينظر لها بغضب ووالدها وأمها وأخوتها يقفون بأنحاء الصالة، فقد أتى يوسف باكراً حوالي الساعة الثانية ظهراً حيث رأى رئيسه أنه قد تعب كثيراً بالأمس فقرر تعويضه وجعله ينصرف مبكراً...
"أين كنت؟" صاح يوسف بغضب وهو ينظر لسارة فأجابت بتعلثم "بـ بالعمل" فصاح بها "عملك ينتهي بالثانية ونحن بالسادسة" ثم صاح بصوت أعلى "أي كنتي أجيبيني" فأجابت "قلت لك كنت بالعمل، وباقي الوقت كنت بالطريق" فصاح "أربع ساعات ياسارة" وهنا قرع الباب ففتح أيمن وإذ بها حماها وحماتها جاءا عند سماع صوت يوسف الغاضب فسألت "ما الأمر ؟ مابك يا يوسف" فتجاهلها وصاح بسارة "قلت أجيبيني يا إمرأة" ثم ضرب المزهرية التي على الطاولة فتدحرجت وتهشمت على الأرض...
إرتجفت سارة وسرت رعشة قوية بجسدها حتى أنها تراجعت بضع خطوات للخلف وهي تنظر ليوسف، وعلى عكس المتوقع لم تدمع عينيها وكأن دموعها قد إنتهت في الطريق وهنا عرف يوسف أن زوجته ليست على مايرام فهدأ وعقد حاجباه وهوينظر لها ً ثم توجه نحوها وقال "تعالي ياسارة إهدئي لا تخافي، تعالي" ثم أمسك بذراعها برفق وكانت بالفعل ترتجف بقوة فوضع يده على ظهرها وقال إهدئي حبيبتي إهدئي...
بدلت سارة ملابسها بمساعدة يوسف ثم وضعها على بالسرير وغطاها حيث نامت نوم عميق، لم تتحدث معه عن شىء، لا عن عمل ولا على ماحدث منه بالأمس، ولا حتى عن سيارتها المركونة هناك، فقط ناااامت، النوم هو كل ما أرادت..
إستيقظت سارة في تمام الساعة العاشرة، نامت لما يقرب الأربع ساعات، كانت تحتاجهم لتجميع شتات نفسها التي تحطمت تماماً على صخور هذا المجتمع القاسي، كانت تسمع صوت والديها وحماها وحماتها وأخوتها، إذن الجميع هنا يريد الإطمئنان عليها، فضحكت! من قاموا بتحطيمها قلقين عليها، فأخذت نفس عميق وزفرته ثم إنتظرت قليلاً حتى إستيقظت تماماً و قامت وخرجت لهم..
"مساء الخير" قالت سارة بعد أن إغتسلت ورتبت شعرها وعادت لطبيعتها فرد الجميع التحية عليها "مساء النور" وهنا سألها يوسف ويبدو عليه الإنزعاج لكنه يتماسك لأجل الحالة التي كانت عليها "هل تشعرين أنك أفضل" فأومأت برأسها بالإيجاب وأجابت "نعم" فقال "حسناً سارة، هل تخبريني الآن ماذا يحدث؟، ما الذي حدث لك، أين سارة التي أحببتها، تلك الفتاة المرحة النشيطة، الذكية، القوية، العنيدة في الحق المتجددة دائماً بمفاجئاتها الجميلة، ولما أصبحتي هكذا، مستسلمة،وكئيبة، ضعيفة ولا تهتمين حتى بمظهرك ولا تغضبي إن قلت بت أقل ذكاء" فنظرت له ثم ضحكت خاصة عندما رأت الإهتمام في عيون الجميع في إنتظار إجابتها فدارت بعيونها عليهم وبدأت ينابيع دموعها التي تجددت بنومها الأربع ساعات تسيل مرة أخرى...
"غبية، هذه الكلمة التي تقصدها أليس كذلك" قالت سارة ليوسف وقبل أن يعترض أوقفته بحركة من يدها
حقاً تسألون عن سارة القديمة، تفتقدونها وتريدون عودتها....؟!" سألتهم وقبل أن تسمع الإجابة نظرت إلى الأرض وقالت "أنا أيضاً أفتقدها وأتمنى عودتها، لكن ماذا عليا أن أفعل وقد قتلتموها" فقال أمين "ماذا تقولين ياإبنتي" فرفعت عينيها نحوه وقالت "أنتم قتلتوها يا أبي" ثم أكملت "قتلتها أنت يا أبي بسوء تربيتك وعدم مساواتك لأبنائك وعنصريتك وتفضيلك للصبي عن الفتاة" ثم نظرت لوالدتها وقالت "وانتي يا أمي بسلبيتك وخضوعك لأوامر أبي حتى وهي خاطئة" ثم وقفت ونظرت لأختها وقالت "وأنتي يا أميرة بإستسلامك للأمر الواقع، وتفريطك في حقوقك" ثم سارت نحو أخوتها "وأنتم بأنانيتكم المتناهية" ولحماتها قالت "وأنتي بمحاولتك المستمرة لفرض سيطرتك عليها والتدخل بحياتها" ثم دمعت عيونها اكثر وبكت وهي تنظر ليوسف "حتى أنت يامن إختارته نفسي وروحي بتجاهلك وتفضيلك للعمل وإعطائه معظم وقتك وإلقاء كل المسئوليات عليها" ثم سقطت بركبتيها على الأرض وقالت وهي تنظر إلى الأرض "وأنا قتلتها بقراري للمجىء هنا من البداية، لكن لي عذر أنه لم يكن لي أحد هناك...ظننت أن أصولي هنا قوتي هنا من سيحميني هنا، لكني منذ أن أتيت ولم أرى سوى مهانة من الجميع الذين أعرفهم وحتى الذين لا أعرفهم ولا يعرفوني راحوا ينهشون جسدي بعيونهم وألفاظهم وكأني جارية أو شهوة لا ثمن لي ولا فائدة منها سوى هذا...." ثم أكملت "لم أكن يوماً غبية أو عدوانية لكني إنسانة لها مشاعر وقلب،...لها قوة تحمل،....تحتاج للتقدير وتحتاج للمساعدة، تحتاج لمن يسألها عن سبب أفعالها،لا أعرف لما لكن أحد منكم لم يهتم" ثم صمتت قليلاً وقالت "ومهما حاولت كان ردكم هو الضغط عليا وهدفكم هو أن أرضخ لكم، فهل يجيبني أحدكم لما فعلته بي هذا، ما الذنب الذي إقترفته؟ ما الخطيئة التي جعلتني على التراب هكذا؟" وقتلت في كل جميل ثم هزت رأسها بأسى وصرخت "هل يجيبني أحدكم، ما هو خطئي ، ما هي جريمتي التي إقترفتها أم أنها فقط لأني إمرأة"......
إتستعت عيني يوسف عندما شعر أخيراً بآلام حبيبته وسالت دموعه في ذهول وبدأ يلوم نفسه كيف لم ينتبه لكل هذا الآلم الذي لحق بحبيبته وهو في غفلة بسبب عمله، فأسرع وركع بجوارها وضمها إليه وراح يهدئها "سارة إهدئي أنا أسف، لم أكن أشعر بألمك سامحيني، وضعت كل إهتمامي لعملي ونسيتك" لكنها تجاهلته وراحت تقول له وهي تبكي بهستريا "لما يايوسف" ثم بكت بصوت مرتفع وهو يحاول أن يهدأها والجميع ينظر لها ولا يعرف ماذا عليه أن يفعل فكلاً منهم قام بما تعلمه ونشأ عليه وظلوا هكذا حتى عادت وقالت له "يوسف أرجوك خذني من هنا، دعنا نعود دعنا نبتعد عن هنا، حقاً أشعر أني سأموت أرجوك، المجتمع يغيرني ويغيرك أنسانا أن الزواج هو أساسه المشاركة وجعلك عبد للعمل وأنا جارية للمنزل ، تأثيره مدمر على كلانا لذا أرجوك إن كنت تحبني حقاً، صدقني هنا لن أنجو أرجوووك، أرجوووووك دعنا نبتعد دعنا نهرب" ثم صرخت "أرجووووووك"......
دراسات
1-
2-
3-
الخاتمة
"هيا ياسارة" قال يوسف وهو يمسك بيد سارة وهم يقفون أمام المطار ليعودوا إلى بريطانيا ليذهبوا وربما بغير رجعة وهنا وقفت سارة وإلتفتت نحو والديها وإخوتها وحموها نظرت لهم ودموع حبها لهم لاتزال تسيل من قلبها قبل عيونها، هي لا تريد أن تفارقهم، تحبهم وتعشقهم ومتأكدة أن لا سعادة بدونهم لكن ماذا عليها أن تفعل؟!....
أخبرني أنت إن كنت مكانها ماذا عليها أن تفعل؟ ، ماذا عليها أن تفعل الفتاة والمرأة المصرية التي رغم كل الضغوط والظلم الذي تتعرض له بشكل يومي تتحمل وتبتسم وتحمل معظم أعباء اليوم على كتيفيها، تربية الأطفال ، الإهتمام بالواجبات المنزلية والزوجية والإجتماعية والوظيفية ورغم كل هذا لا تلقى إلا كل إهانة سواء من زوج يقلل من إحترامها أو أسرة تجبرها على التفريط في حقها والرضوخ أو مجتمع يعاملها كناقصات عقل رغم أنها وبكل تأكيد أساس المجتمع وسبب إزدهاره ...بالطبع ليس الجميع على هذا النحو لكن من المؤكد أن جميع سيدات وفتيات مصر يتعرضن للعديد من هذه الضغوط وإن إختلف الأمر بشىء أو إثنين لكن هناك أشياء عامة...كتعرضهن جميعهن، فتاة وسيدة أم أو حتى طفلة محجبة أو متبرجة أو معتدلة جميعهن للتحرش بمختلف صوره فقط لأنها إمرأة وما أقوله قد جاء على لسان أحد الشباب أنه يضايق الفتاة حتى قبل النظر لها لأنها فتاة ولأنه يتباهى بذلك أمام أصدقاءه....
والآن السؤال هنا، ما الحل؟، هل سنترك سارة تسافر إلى الأبد؟، سنتركها تهرب لحياتها، لقد أصبح للمرأة العربية خيارين إما أن تسافر وتنجو بإنسانيتها وطموحتها ومميزاتها لبلد تمنحها الحق في الحياة أو أن تبقى كجسد دون روح تعيش ولا تحيا في مجتمع لايريدها سوى .... فلتضعوا أنتم الاسم المناسب.
في النهاية وجب التنويه أن المجتمعات التي إهتمت بالمرأة كنصف المجتمع وإعتنت بها أصبحت من أقوى المجتمعات ودول عظمى يحتزى بها، أما من عملت على كبتها وقتل طموحها فجيعها في طريقها للإندثار.....جميعها ولايوجد إستثناء.

0 تعليقات