خطوات نحو الهاوية بقلم منال سالم _مجلة الشفق



خطوات نحو الهاوية

بقلم منال سالم
مجلة الشفق

لتحميل القصة كاملة من هنا 

-المقدمة-
فرغت من أداء صلاتي رافعة كفاي إلى السماء متضرعة للمولى -عز وجل- لاستجابته لدعائي بعد صبرٍ جميل، أخيرًا سأحظى بمن تمنيتُ زوجًا لي، مجرد التفكير في ذلك جعل قلبي يرقص طربًا بين ضلوعه، لم يهمني في تلك اللحظة التفكير فيما يمكن أن يفسدها عليّ، فقد وافقت عائلتي على الارتباط به بعد أن ظننت أنه لا أمل لي معه، سعادة لا أستطيع وصفها غمرت كياني وتغلغلت في وجداني، فقد أحببته في صمت، وحلمت أن أكون زوجة له لأمنحه سعادة أبدية، لم يتبقَ سوى أيامٍ معدوداتٍ على خطبتنا، وسيعقبها عقد القران والزفاف، تحمست كثيرًا لحياة مشرقة مليئة بالحب والود والمشاعر العميقة، خاصة أني فتاة حالمة تحركها مشاعرها وتتحكم بها عواطفها .. أو هكذا اعتقدت!


الفصل الأول
تورد وجهي بحمرته الخجلة واندفعت الدماء المتحمسة في عروقي لتغذي خلايا جسدي المتعطشة لتذوق حبِ العمر، سرتُ بخيلاء وسط المارة وأنا أتأبط ذراعه الأيمن بعد عقد قراننا، شعرتُ بداخلي أني ملكتُ الأرض وما فيها، أخفض ذراعه ليتمكن من الإمساك بيدي أثناء عبورنا الطريق، تخللت أصابعه أناملي واشتبكت معًا لتعلن ضمنيًا عن ترابطنا، تلك اللمسة الواثقة التي رسخت بداخلي برهانًا على كونه خائفًا عليّ مما قد يؤذيني، حانت منه التفاتة ساحرة نحو عيناي متسائلاً:
-ماذا تريدين أن تفعلي؟
صمتُ مكتفية بالتحديق في حدقتيه وأنا أحدث نفسي بتوقٍ متلهفٍ:
-أريدك أنت، لا أحد سواك!
تعجب من سكوتي الغريب، بل ورمقني بنظرة متأملة لشرود في عينيه ثم سألني مهتمًا:
-أبكِ خطبٌ ما؟
أومأت نافية وقد تداركت نفسي:
-لا حبيبي!
ابتسم متابعًا:
-حسنًا لنتابع سيرنا، فأنا أريدُ أن أبتاع لكِ أجمل الخواتم وأغلاها
اعترتني دهشة فرحة من هديته المفاجأة لي، وظللت اختلس النظرات إلى وجهه لأتأكد من حفر معالمه في ذاكرتي.
-يا الله!
هكذا رددت لنفسي بحماسٍ مضاعف عشرات المرات، أحسست بأصابعه تطبق قليلاً على أناملي ليؤكد لي عدم تخليه عني حتى في أبسط الأمور، مشينا بتؤدة وهو يحاذر مرور السيارات حتى بلغنا وجهتنا، وعند محل الصائغ انتقى لي خاتمًا ثقيل الوزنِ، نظرت له بعينين لامعتين هامسة له:
-أعشقك "حبيب"
نعم اسمه "حبيب" وهو الحبيب الأول والأخير، وضع خطيبي يده على طرف ذقنه في حركة مداعبة قبل أن يتساءل باهتمامٍ:
-سأبتاع لكِ سلسلة صغيرة، ما رأيك؟
رددت معترضة:
-هذا كثير
ابتسم معلقًا:
-لا شيء يغلو عليكِ حبيبتي "ناردين"
وبالفعل اشترى لي هدية أخرى زادت من شوقي الممتن له، بت شبه متيقنة في قرارة نفسي أن سعادتي ستكتب على يديه، أليس هو حب العمرِ كما أسميه؟!
*****
كان يومًا عاديًا كغيره من أيام عملي الروتينية في المركز التدريبي للمتخرجين حينما عرج عليَّ "حبيب" بعد انتهاء ساعات العمل ليوصلني في طريقه إلى المنزل، كان العمل قد استنزف الكثير من قواي وأنهك بدني للغاية، سرتُ في صمت أرد باقتضاب على أسئلته المهتمة بمعرفة أحوالي، ولكن تبدل الوضع في لحظة، حيث رتب لي مفاجأة أخرى أدخلت السرور على نفسي عندما غير وجهة طريق سيرنا المعتادة ليذهب بي عند بائع الورد، رفعت حاجبي للأعلى مدهوشة من قدومنا إليه، لم أترك لحيرتي الفرصة لتعبث برأسي، التفت نحوه لأسأله بجدية:
-ماذا نفعل هنا؟
أجابني دون تفكيرٍ:
-سأهديكِ باقة ورد
رددت مصدومة وقد برقت مقلتاي:
-باقة ورد، لي أنا؟
لم أتلقَ باقة ورد في حياتي مطلقًا، بل لم أحلم أن يهدني أحدهم مثلها، هز رأسه مؤكدًا:
-نعم، لكِ وحدك
ارتسمت بسمة شيقة على ثغري ليكتمل إحساسي الداخلي بأني أعيش حالة متفردة من الحب المحفز للقلوب والوجدان، انتظرت على أحر من الجمر خارج المحل مترقبة خروجه والباقة في يده، انتابني الفضول لأعرف ما الذي سيشتريه لي، اعتقدت أنها بضعة زهرات مختلفة الألوان، كانت الصدمة حينما ناولني الباقة الحمراء هامسًا لي بعذوبةٍ:
-لم ولن أعشق سواكِ
هل أرقص طربًا أم أغرد بسعادةٍ؟ شل تفكيري للحظة وأخرجت تنهيدة متيمة من صدري لأرد بعدها بصوتي الخافت:
-أحبك يا أغلى الناس!
التف ذراعه حول كتفي لأشعر بعضلاته تحتويني بالكامل، رمقته بطرف عيني بنظرة حانية مليئة بالأشواق وتنطق بالكثير عما يعجز لساني عن البوح به، شدد من ضمه الحذر وسار بي الهوينا حتى أوصلني إلى المنزل وهو يسمعني كلماتٍ عذبة تذيب القلوب وتؤجج المشاعر أكثر.
*****
وحينما يأتي المساء، تشتعل الأجواء الهامسة بالمشاعر الفياضة والأحلام الوردية، كنا نقضي ليلنا نثرثر بالساعات عبر الهاتف المحمول حتى يؤذن الفجر، نتحدث في توافه الأمور وأكثرها أهمية، نضع المخططات، نرسم الأحلام، ونذلل لأنفسنا الصعاب، بدا كل شيء مثاليًا، لا ينقصه إلا إتمام تلك الزيجة بإعلان موعد ليلة زفافنا، حتى ذلك الحلم البسيط شرعنا في التخطيط له ليكون مرضيًا لكلينا، أذكر كلماته المعسولة وهو يردد على مسامعي:
-كم اشتاق لتلك اللحظة التي أضمك فيها إلى صدري وتستشعري دقات قلبي!
همست بخجلٍ متخيلة إياه يلاطفني بخبرته الذكورية لأصبح أسيرة مشاعره:
-وأنا أيضًا
أسهب في التعبير عن مشاعر حبه لي لأغمض عيناي مستمتعة بكل حرف تتلقاه أذناي، في الأخير أضاف بصوته الهادئ الذي جعل الخدر يسري في حواسي:
-لم يتبقَ إلا القليل حبيبتي
وافقته الرأي:
-فقط أسبوعان وسنغدو زوجين يا "حبيب"
رد بزفيرٍ مسموع:
-أعطني الصبر يا الله، إنها مدة طويلة
ضحكت مازحة:
-ليس لتلك الدرجة، ادعو الله أن تكفي لإنهاء النواقص
علق بجدية بدت واضحة في صوته الذي ازداد خشونة:
-وإن يكن، لن أزيد عن الأسبوعين يومًا واحدًا، بل ساعة واحدة، هل تفهمين؟
أشعرني توقه للزواج بي بأني لست كباقي النساء، أنا ملكة متوجة في قلبه، همست له بامتثال أعجبه:
-كما تريد حبيبي!
*****
إنها الليلة الموعودة، حين تعلو الزغاريد وتدق الدفوف، راقبت النظرات المتفرسة في وجهي وثوب زفافي بفتورٍ، بالطبع لن أنال إعجاب الجميع، لكن يكفيني أني حظيت في الأخير على زوجٍ يهيم بي شوقًا، شعرت برجفتي المبررة وهو يمرر ذراعه على ظهري ليميل نحو رأسي هامسًا:
-متى سنختلي بأنفسنا؟
غزت حمرة غير مسبوقة بشرتي وأنا أفكر بتوترٍ فيما يقف وراء كلماته المقتضبة تلك، انتهى حفل الزفاف على خير، وتلقينا التهاني ممن حولنا لنستقل السيارة بعدها إلى منزل الزوجية، تضاعف ارتباكي مع لمساته الحنون التي عزفت على أوتار جسدي بمهارة، استطاع "حبيب" في لحظات أن يجعلني أعايش تجربة لا مثيل لها في الغرام، رقصنا سويًا على أنغام الموسيقى الهادئة، ورمقني بنظرات حبٍ عشقتها، استسلمت مع مداعباته وهمساته ورقته الحنونة لأنهُر المشاعر التي احتلت كياني بالكامل، تمنيت يومها ألا أفيق أبدًا من ذلك الحلم الجميل، وإن حدث واستيقظت منه فليتكرر مجددًا، تحسس عنقي برفقٍ ليهمس بأنفاس ملتهبة زلزلت ما صمد من حصوني:
-أحبكِ "ناردين"!
ذاب الفؤاد، وأعلن الجسد انهزامه بتلك الهمسات الناعمة التي عرفت الطريق فورًا إلى أوصالي، وظننت أني بتلك اللحظة قد استحوذت عليه كاملاً.
القصة القصيرة (خطوات نحو الهاوية)

#خطوات_نحو_الهاوية

الفصل الثاني

قرر زوجي أن يصحبني في رحلة عرف عنها مجازًا بأنها "شهر العسل"، لكنها لم تتجاوز بضعة أيام شملت السفر والانتقالات من مكان لآخر، توهمت أني سأعيش ليالٍ لا تمحى من الذاكرة، لكن خاب ظني، وبدأت قوة مشاعر الحب تتزعزع لتخطو نحو الهاوية، فرغ "حبيب" من بث مشاعره الحميمية ليغفو بعد لحظات متعللاً بإرهاق السفر في غرفتنا بالمنتجع السياحي، تركته يرتاح وظللت أراقبه في صمتٍ لساعاتٍ دون كللٍ أو ملل، ومع ذلك لم أحاول إيقاظه، اكتفيت بالتحديق الهائم به، فربما جسده منهك وبحاجة للراحة، كنت على وشك أن أغفو حينما تثاءب بصوتٍ شبه مسموع ليقول بعدها بنبرته الناعسة:
-ألا تزالين مستيقظة؟
ابتسمت وأنا أجيبه:
-نعم، لم يكن بي رغبة للنوم
اعتدل في نومته على الفراش، مد يده ليتلمس طرف وجنتي وجانب عنقي ثم أزاح الغطاء عن جسده ليقول بتثاؤبٍ:
-سأغتسل "ناردين"، استعدي لنخرج سويًا
نظرت له مبتسمة:
-حسنًا
تابعته عيناي وهو يلج إلى المرحاض لأنهض بعدها من رقدتي غير المريحة باحثة عما سأرتديه في تلك النزهة الترفيهية، وبعد وقت قليل، كان "حبيب" قد تأنق في ثيابه ليبدو مستعدًا للذهاب على عكسي أنا التي استغرقت وقتًا كباقي الفتيات في توفيق قطع الثياب مع بعضها ووضع مساحيق التجميل، بدا على عجالة من أمره فأردف قائلاً:
-سأنتظرك بالأسفل ريثما تنتهين
حركت رأسي بالإيجاب وأنا أرد:
-اتفقنا
كنت بحاجة لإنهاء ارتداء ملابسي دون مقاطعة غير مجدية منه، تركني بالغرفة واتجه للخارج لأحاول قدر المستطاع أن أكمل الناقص في أسرع وقتٍ، خرجت باحثة عنه في الاستقبال التابع للمنتجع، لم أجده فتلفت حولي بقلقٍ متسائلة في نفسي:
-أين ذهب؟
اتصلت به على هاتفه المحمول لكن كان الخط مشغولاً، استدرت برأسي نحو الجانب حينما سمعت صوت ضحكته المألوفة، وجدته يقف عند الزاوية واضعًا الهاتف على أذنه ويدخن سيجارته باستمتاعٍ، اقتربت منه ملوحة له بيدي فأشار لي برأسه ثم أنهى المكالمة ليقول لي:
-لنجلس هنا ثم نذهب لتناول العشاء
لم أبدِ اعتراضًا، جلست على الأريكة الشاغرة التي اتسعت لكلينا متوقعة أن يطوقني بذراعه لنتقارب أكثر، انتظرت، وانتظرت، وانتظرت، ولكن لا شيء، فقط هو محدقٌ بإمعانٍ في شاشة هاتفه وكأن من معه أهم مني في تلك اللحظة الخاصة، لم أرغب في أن أكون متطفلة واختلس النظرات نحو ما يتطلع إليه، زفرت بمللٍ عله ينتبه لضيقي، لاحظ "حبيب" انزعاجي فعلق مازحًا وكأنه يريد مشاركتي ما يتصفح:
-انظري إلى تلك الصورة المضحكة وما كتب أسفلها
أحنيتُ رأسي على كتفه لأشعر بقربي منه، لم أكترث بأي صورة أو بأي تعليقٍ، كنت فقط مهتمة بإحساسي القريب منه لأمحو ما سيطر عليّ من مشاعر مزعوجة، تفاجأت به يزيح كتفه ليعتدل في جلسته مبعدًا رأسي عنه ليضيف قائلاً بجمودٍ غير معتادٍ منه:
-لحظة، سأتصل برفيقي، لقد هاتفني قبل ساعات وتناسيت الرد عليه
شعرت بالحرج رغم كون تصرفه تلقائيًا، تصنعت الابتسام قائلة له:
-تفضل
نهض من جواري ليتحدث بضحكات مجللة مع رفيقه، ظللت باقية بمفردي أجوب بنظراتي على الجالسين حولي ثم أعود للتحديق به، استغرق ما يزيد عن ربع ساعة يتحدث معه بشغف واهتمام افتقدته منه، زفرت باستياءٍ مدعية النظر في هاتفي ريثما ينتهي، رفعت عيناي لأنظر عليه حينما هتف عاليًا:
-هيا "ناردين"
كان وجهي عابسًا ولم يتطلع هو إليه، أسرعت في خطاي لألحق به وكدت أن أتعثر لأكثر من مرة، تساءلت بصدمةٍ بين جنبات نفسي، أين تلك اليد التي كانت تمتد للإمساك بي؟ اضطررت في الأخير أن أناديه:
-"حبيب" انتظرني، حذائي العالي لا يساعدني على الركض خلفك
أبطأ في خطواته ممازحًا:
-هذا خطؤك، كان عليكِ ارتداء المريح
رددت متسائلة بضيقٍ وقد احتدت نظراتي:
-وما العمل الآن؟
تنهد مضيفًا:
-لا تهتمي للأمر، لنكمل سيرنا
توهمت أن يجعلني أتأبط ذراعه كنوعٍ من الاهتمام بي، وتأهبت لفعل ذلك لكن خابت توقعاتي ودس يديه في جيبه ليسير بمفرده، عبست تعابيري بالكامل لخيبة الأمل التي اعترتني، حاولت تجاوز الأمر لأستمتع بالعشاء والنزهة، مضى الوقت سريعًا مع مزاحه الساخر وحديثه الذي لا ينقطع عما فعله في رحلاته السابقة من مغامرات شيقة وددت في نفسي لو كنت طرفًا فيها، ثبطت كلماته المسترسلة وحماسه الواضح نزعتي المزعوجة منه، وغفرت له زلته تلك ملقية خلف ظهري أوهامي الزائفة، ويا ليتني ما فعلت!
*****
انتهت عطلتنا القصيرة وحزنت كثيرًا لانقضائها، وعدني "حبيب" بتكرارها إن سنحت له الفرصة وتمكن من الحصول على إجازة من عمله، استقللنا الحافلة عائدين إلى مدينتنا، التصقت قدماه بقدمي، وشعرت بالسعادة من قربه لي، لم أمل للحظة وهو يعيد على مسامعي لحظات طفولته ومشاهد مراهقته العابثة، توقفت الحافلة عند المحطة الأخيرة ومعها انتهت تلك المتعة الخفية من قربنا الجميل، أدار رأسه في اتجاهي قائلاً بجدية:
-"ناردين" سأشتري الطعام الجاهز لنا
وافقته الرأي فلا يوجد بالمنزل أي طعام نتناوله، ساعدته في حمل الأكياس البلاستيكية حتى يتمكن من دفع ثمن المشتريات، توقعت أن يحملها عني لكنه سار بمفرده واضعًا يديه في جيبي بنطاله الجينز، اغتظت من تصرفه الفظ فتوقفت عن السير لأهتف بتذمرٍ:
-لن أحملها كلها
التفت نحوي مخفضًا نظراته نحو الأكياس ثم ابتسم معقبًا:
-أعتذر، لم انتبه
عاد ليحمل عني الأكياس وواصلنا سيرنا حتى بلغنا مفترق الطريق، تذكرت ما كان يفعله حينما نعبره، وتوقعت أن تشتبك أصابعه بأناملي لنهرول فيه سويًا، استعدت يدي للامتداد نحوه والإمساك بكفه لكنه خذلني حينما خطا مسرعًا ليعبر الطريق قبلي، تهدل كتفي بإحباطٍ وخزي وعكست نظراتي حزني الشديد، استمر "حبيب" على تلك الحالة المتجاهلة لي حتى وصلنا إلى المنزل، لم أعاتبه، ربما الأمر لا يستحق الجدال من أجله، لكني افتقدت ذلك الإحساس الذي ملأني ذات يومٍ بالاهتمام بأدق التفاصيل وأقلها.
*****
لم أتوقف عن البكاء بعد أن أخبرني "حبيب" بتكليفه بمهام جديدة تتبع عمله الخاص والتي تتطلب السفر إلى خارج البلاد، ليس السبب فقط ابتعاده، وإنما غيابه لمدة قد تزيد عن الثلاثة أشهر ليعود في عطلة قصيرة ثم يتكرر الأمر من جديد لأشهر أخرى وهكذا، بالطبع لن أقف في طريق مستقبله المهني، لكني لا أزال عروسة جديدة لم تتمتع بعد مع زوجها، حاوطني بذراعيه ماسحًا على ظهري برفقٍ وهو يواسني:
-لا تبكِ حبيبتي، ستمر الأيام سريعًا
انتحبت متسائلةٍ بحزنٍ جلي:
-كيف هذا؟ ألا يمكنك الرفض؟
رد بعد تنهيدة مطولة:
-الأمر صعب، أنا أشق طريقي "ناردين"، كيف أخبر المدير أن زوجتي ترفض سفري للخارج؟
اعترضت بنبرتي الباكية:
-ولكن ...
قاطعني بحزمٍ:
-"ناردين" توقفي!
نظرت له ودمعاتي تنساب على وجنتي، احتضن وجهي بكفيه ماسحًا تلك العبرات مضيفًا بهدوءٍ وقد تحولت نبرته للين قليلاً:
-لا تقلقِ، سأهاتفك كل يوم، لن تشعري بغيابي!
ابتسم مزاحًا ليخفف من وطأة الأمر:
-لندعي أنها فترة خطبة جديدة كي نجدد عهود زواجنا
هكذا أقنعني "حبيب" ببساطة لاستسلم أمام حبي الجارف له، رفعت حدقتاي الباكيتان طالبة منه:
-أريد ما يذكرني بك
سألني مستفهمًا:
-تذكار؟!
حركت رأسي قائلة:
-نعم
ظلت ابتسامته التي تأسرني مرسومة على ثغره وهو يقول:
-اطلبي ما تريدين
تنهدت بعمقٍ قبل أن أضيف:
-زجاجة عطرك
بدا طلبي غريبًا بالنسبة له، رمقني بنظرة متعجبة متسائلاً:
-عطري؟
تابعت موضحة سبب رغبتي في الحصول عليها تحديدًا:
-أحب أن تبقى رائحتك المميزة عالقة في أنفي
رفع يده ليمررها في خصلات شعره، حك مؤخرة عنقه قائلاً بحرجٍ ملحوظ:
-للأسف انتهت الأخيرة التي بحوزتي، وكنت على وشك إلقائها في القمامة
كدت أن أصيب بالإحباط، لكن أضاء عقلي فجأة بفكرة بائسة، صحت وكأني أفكر بنبرة مسموعة:
-سأحتفظ بها مؤقتًا كي تكون لي السلوى في غيابك
هز كتفيه قائلاً بنفس الابتسامة الجذابة:
-كما تشائين حبيبتي
وبلا وعيٍ مني احتضنته بقوة واضعة رأسي على صدره لتخترق دقات قلبه أذني وتزيد من حنيني وتلهفي، رددت بنشيجٍ:
-أوه! كم سأفتقدك "حبيب"
مسح على ظهري بنعومة مؤكدًا عن ثقة:
-ستمر الأيام
تمتمت بخفوتٍ مواسية نفسي:
-سأكتب لك رسالة
سألني مستوضحًا:
-أتقصدين من خلال البريد الإلكتروني؟
طالعته بعينين باكيتين وأنا أرد:
-لا، رسالة ورقية
ابتسم مرددًا بحماسٍ ظهر عليه:
-كالعشاق؟
أومأت باقتضابٍ:
-نعم
داعب طرف أنفي بإصبعه قائلاً بنبرة مشجعة لي:
-وأنا سأنتظرها منك
صححت له بجدية:
-لا، بل ستقرأها حينما تعود إلى أحضاني من جديد
أمسك بطرف ذقني بإصبعيه ليتأمل صفحة وجهي بنظراته الممعنة، ضغط على شفتيه مرددًا:
-لقد زاد فضولي لأعرف فحواها
علقت عليه بغموضٍ لأثير اهتمامه:
-اعتبرها مكافأة مؤجلة
حافظ على ابتسامته البشوشة مضيفًا:
-اتفقنا، لنكن على عهدنا
وسافر بعدها لأشعر بالخواء، والفراغ، والوحدة، تضاعفت همومي مع عدم وجود رفقاء لي، فقد كنت أميل للعزلة ولا أجيد صنع الصداقات مثل غيري من الفتيات، مرت الدقائق بطيئة للغاية، فماذا عن الساعات والأيام؟ كنت أحترقُ شوقًا إليه عشرات المرات في اليوم الواحد، توقعت أن ينفذ ما وعدني به، أن تعوضني مكالماته الهاتفية عن غيابه الذي أتعب قلبي وأهلك أعصابي، لم يمنحني سوى دقائق معدودة من وقته لأشبع بها توقي الشغوف إليه في كل يوم، بت أنتظر تلك الدقائق كالمدمن على مخدرٍ ما، بحثتُ عما يمكنه أن يعوض غيابي، حتى أني تنقلت بين صفحاته على مواقع التواصل المختلفة لأتابع خطواته في صمت، ما ألمني حقًا هو إهماله لي رغم حاجتي الماسة إليه، اختلقت له مئات الأعذار والحجج كي لا يحمل قلبي ضغينة نحوه، ومع ذلك دفعني تجاهله بقوةٍ نحو الهاوية من جديد.
*****
القصة القصيرة (خطوات نحو الهاوية)

#خطوات_نحو_الهاوية

الفصل الثالث

اعتصر الألم قلبي وأوجعه مع استمرار جفائه المتزامن مع تجاهله لي، تلاشت الوعود بالاتصال اليومي، وتبخرت الأحلام بتكرار ما ادعاه مازحًا بأنها فترة خطبة ثانية، كنا كالغرباء تحت سقفٍ واحد، مضت الأيام بصعوبة وأنا أتنكر لكل هاجس يحاول الاستحواذ على عقلي ضده، تناسيت كل شيء حينما عاد إلى أحضاني، وتغاضيت عما أوجع كرامتي الأنثوية لأنعم من جديد بقربه الذي اشتقت إليه، أحببتُ ليلة عودته حقًا، ذكرتني بما افتقدت معايشته معه كثيرًا، أملت أن يدوم ما تمنيتُ، وأعطيته تلك الرسالة التي كتبتها ذات يومٍ بدموعٍ فرحة، قرأها مبتسمًا ونظراته تعكس حبًا توهمت أنه ضاع في غيابات سفره المتكرر ليقول بعدها مُعاهدًا قلبي:
-أنتِ حبيبتي، أعدك أن أحافظ عليها أبد الدهر
ثم قبلني بعمق ومنحني بعدها تلك الضمة الماحية لأحزاني القديمة، ظننت أني حلقت في سماء الحب من جديد، لن أدع يأسي يعكر صفو تلك اللحظات الحميمية الخاصة، مر الوقت وللأسف خاب رجائي، وعاد إلى إهماله لينشغل برفاقه وبتركي لساعات طويلة أجلس بمفردي طوال فترة أجازته، ربما لو كان يمنحني ما يعطيه لهم لما شعرت بمثل ذلك الفراغ القاتل، ألهيتُ عقلي في بعض الأمور، لكن بقيت رغبتي في الشعور باهتمامه الحقيقي بي -وإن كان بسيطًا- شاغلي الأكبر، حاولت ألا أبحث له عن ذرائع للخلاف أو الجدال، وقررت أن أصنع سعادتي بنفسي إن كان لا يلاحظ إهماله لي، ورغم هذا أوجعني -بل أصاب قلبي في مقتل- حينما رأيت تلك الرسالة التي وعدني بالحفاظ عليها ملاقاة بعدم اكتراث خلف الكومود الملاصق للفراش، انحنيت لألتقطها وأنا أكافح عبراتي التي غزت مقلتاي، قاومت رغبتي في البكاء معتقدة أنه نسي وضعها في مكان آمن ليحفظها، تغبرت بالأتربة وبُهت حبرها واختلط بسبب تساقط الماء عليها، طويتها بحرصٍ، وقررت أن اختبر صدق وعده لي، أخفيت الرسالة في جيبي ثم أتيت إليه لأقول بابتسامة مصطنعة:
-"حبيب"
رفع رأسه عن شاشة هاتفه المحمول ليسألني بفتورٍ شبه ملحوظ:
-ما الأمر "ناردين"؟
جلست إلى جواره فخبأ هاتفه كي لا ألحظ ولو مصادفة ما يطالع باهتمام مريب، تغاضيت عن تلك النقطة لأسأله:
-أين وضعت الرسالة التي كتبتها لك؟
رد متعجبًا:
-أي رسالة؟
صدمة أخرى تلقيتها في صدري لتزيد من إحباطي الموجع نحوه، رددت موضحة:
-التي وعدتني بالحفاظ عليها
فرك ذقنه بحيرة واضحة عليه، بدا كمن نسي الأمر كليًا، ثم رد مازحًا:
-لا تقلقي، إنها موجودة هنا
ادعيت الابتسام رغم يقيني بعدم معرفته لمكانها وللضرر الفادح الذي أصابها، أمسك "حبيب" بيدي ليضعها على قلبه، ثم أرخى أصابعه لأسحب كفي قبل أن يكمل بهدوءٍ لكنه بدا جادًا للغاية:
-اعلمي "ناردين" أني لست رومانسيًا مثلك، أنا شاب واقعي، لا أجيد التعبير عن المشاعر
نظرت له بيأسٍ حزين، أنا لا أريدك سوى أن تعود إلى سابق عهدك معي، لا أكثر ولا قليل، همست بصوتٍ أقرب للاختناق:
-وأنا لم أطلب منك سوى القليل من الاهتمام
زفر متسائلاً بتثاؤبٍ:
-أخبريني هل الطعام جاهز؟ فمعدتي تصرخ جوعًا!
أزعجني تجاوزه لتلك المسألة ببساطة، أنا أحدثه عن الاهتمام بي وهو يطلب مني الطعام، أدركت أنه لا جدوى من الحديث معه، تنهدت مجيبة إياه:
-نعم
رد بحماسٍ ظاهرٍ:
-عظيم، لنأكل سويًا، فأنا على عجلة من أمري
تعقدت ملامحي متسائلة:
-لماذا؟
أجابني عفويًا:
-سأخرج مع رفاقي لبعض الوقت
ازدادت تعابير وجهي تجهمًا، وسألته بنبرة شبه مزعوجة:
-ألم تكن معهم بالأمس؟
أجابني دون ترددٍ:
-نعم، ولكن هؤلاء رفاق قدامى، لم أرهم قبل فترة، واتفقنا اليوم على التجمع في منزل أحدهم وقضاء السهرة معًا
هتفت معترضة بضيقٍ مقروء على كل تفصيلة في وجهي:
-ولكن ....
قاطعني بجديةٍ:
-"ناردين"، إنها ليلة واحدة، ولن أتأخر
رددت باحتجاجٍ:
-ولكنك قلت لي هذا بالأمس، وأول أمس، وقبلها، طوال بقائك هنا تخرج كل ليلة مع رفاقك الذين لا ينتهي عددهم
امتعض وجهه معلقًا:
-وماذا أفعل إن كانوا كُثر؟ أليس من حقي الترويح عن نفسي؟
هتفت فيه بحدةٍ:
-روّح عن نفسك ولكن لا تنسى حقوقي
رد باستنكارٍ:
-وهل قصرتُ معكِ في شيء؟
صمت للحظة مانعة نفسي من الرد عليه، فالتقصير من وجهة نظره يعني تبادل الأجساد للحب بشغف، وبالنسبة لي يعني أعمق من ذلك بكثير، إبداء الاهتمام، الاحتواء، المشاركة، حذرته وأنا أكاد أنهار باكية:
-الإهمال يقتل المشاعر الجميلة، تذكر ذلك جيدًا
نظر لي باستخفاف قبل أن يرد متهكمًا:
-أي إهمالٍ وأي مشاعر تتحدثين عنها، كل تلك الثورة الفارغة لمجرد خروجي لبضع ساعات؟
تنفست بعمقٍ لأسيطر على نوبة البكاء التي تراودني قائلة:
-لا يا "حبيب"
رد بجمودٍ أضنى قلبي وأتعبه:
-وعدتك ألا أتأخر، وسأفعل، لا تعدي الطعام، فقدت شهيتي!
هتفتُ عاليًا:
-افعل ما تريد!
ثم تركني في مكاني ليختفي بداخل الغرفة، رغمًا عني تساقطت دمعاتي المقهورة، دفنت وجهي بين راحتي متذكرة الرسالة الموجودة في جيبي، أخرجتها منه لأمزقها والألم يفتك بقلبي.
*****
جلست على الفراش انتظره بصبرٍ أوشك على النفاذ مني، ها قد نكث "حبيب" بوعده لي مرة أخرى، وتأخر في سهرته مع رفاقه بالخارج حتى الساعات الأولى من الصباح، وبت أنا وحدي أعض على أناملي من الضيق والامتعاض، حتى أنه لم يكلف خاطره بمراسلتي أو السؤال عن أحوالي، كنت مهملة بحقٍ، وحينما عاد كان منهك القوى، يتوق للنوم بعمقٍ، ألقى بجسده على الفراش مغمضًا لعينيه وهو يهمس بتعبٍ:
-لا توقظيني باكر "ناردين"
نظرت له نظرة معاتبة مليئة باللوم ومغطاة بالدمعات، همست وأنا أوليه ظهري:
-حسنًا
غط في سباتٍ عميق بعد دقائقٍ وبقيت أنا مستيقظة أبكي على وسادتي بقهر منكسر، وضعت يدي على فمي لأمنع شهقاتي الغادرة من الخروج من جوفي لتفضح أمري، فأنا لا أريد شفقته ولا اهتمامه الزائف، أريد فقط لحظة صادقة من الماضي الذي بات بعيدًا عني.
*****
القصة القصيرة (خطوات نحو الهاوية)

#خطوات_نحو_الهاوية

الفصل الرابع والأخير

تأقلمت مع غيابه المعتاد وإهماله المقصود لي دون عتابٍ، فقد مللت من الإشارة إلى ذلك، وسئم "حبيب" من جدالي معه لينتبه لصغائر الأمور التي تخصني، ضاق به ذرعًا من شكواي، وحملني الذنب في اختلاق وسائل النكد، تسرب إليَّ وقتها إحساسًا عميقًا بأن حبي له لم يكن إلا من جانبي، منحته ما لن يقدر، اقترب موعد ميلاده فعمدت إلى عدم إفساد تلك المناسبة بتصيد الأخطاء، فربما هي فرصة طيبة لإصلاح الشرخ في مشاعرنا الفاترة، قررت أن ابتاع له شيئًا مميزًا، بالطبع لاحظت اهتمامه بالعطور ووضعها طوال الوقت، فاقتطعت جزءًا من راتبي الشهر لأشتري له عطرًا خاصًا ما إن يضعه يتذكرني، دار في خلدي أن أحضر له عطرًا مماثلاً لما كان في زجاجة العطر الفارغة التي احتفظت بها لأشهرٍ، وبالفعل ذهبت بالزجاجة إلى محل العطور لأخذ رأي الخبير هناك، تحير البائع قليلاً وأتى لي في النهاية بشيء مقارب لها مع الفارق أنه باهظ الثمن، طلبت منه أن يغلفها بشكل لائقٍ، فنفذ رغبتي بتهذيبٍ، عدت إلى المنزل والحماس يملأ صدري لأهديها له، وانتظرت بشغفٍ عودته ليراها، راقبتُ باهتمام مشتعل بداخلي نظراته وردة فعله وهو يفتحها، رأيت ابتسامة باهتة تتشكل على ثغره قائلاً:
-شكرًا "ناردين"، إنها هدية جميلة
ثم أحنى رأسه على وجنتي ليطبع قبلة صغيرة عليها، سألته بصدرٍ متهدجٍ:
-هل أعجبتك؟
أومأ برأسه هاتفًا:
-نعم
سعدت كثيرًا لكونها قد حازت على إعجابه، وأضفتُ بشغفٍ معكوس في نبرتي:
-لقد سعيت جاهدة لأطابقها بتلك الزجاجة القديمة التي أعطيتها لي
حدق بشرود أمامه مرددًا بوجهٍ متعجبٍ:
-لا أذكر ذلك
أوضحت له بجديةٍ لأشير لحرصي البالغ عليها:
-قبل أن تسافر تركت لي زجاجة عطرك الفارغة
أرجع رأسه للخلف معلقًا:
-نعم.. تذكرت
سألته بترقبٍ وأنا أبعثر الرائحة في الهواء ليشتمها أنفه:
-هل الرائحة مثلها؟
رد بفتورٍ:
-قليلاً، ولكن القديمة لم تكن أصلية
زويت ما بين حاجبي متسائلة باندهاشٍ:
-ماذا؟
أردف موضحًا:
-كانت زجاجة عادية، رخيصة الثمن، حتى أني لم أكن أحبذها كثيرًا
أحبطتني كلماته القاسية وأفسدت فرحتي بالكامل، وأنا التي ظننت سابقًا أنه أعطاني إياها لكونه يحبها تحديدًا، رددت باستياءٍ ملموس:
-فهمت
ربت على كتفي كنوعٍ من التقدير قائلاً:
-سلمتِ "ناردين"
سألته بحزنٍ حاولت إخفائه:
-هل ستضع منها اليوم؟
أولاني ظهره معقبًا:
-لاحقًا، فقد أهداني رفاقي النوع المفضل لي
تفاجأت من اهتمامه غير المبرر بهدايا أصدقائه عن هديتي، سألته مصدومة:
-حقًا؟
أجاب مؤكدًا بحماس لم يظهر مع تطلعه لهديتي:
-نعم، نوعٌ فاخر لا يليق إلا بي
هتفت بغيظٍ:
-وزجاجتي غالية أيضًا
التفت نحوي ليداعب طرف ذقني قائلاً ببسمة صغيرة:
-أعلم، سأضع منها، لا تقلقي
ساورتني الشكوك بأنه يجاملني فقط، تطلعت إليه بنظرة حانقة غاضبة منه، فأنا أسعى لرأب الصدع في علاقتنا التي تحولت لاهتمام وحب من جانبي، وفتور وشيء روتيني من جانبه، شهقت بفزعٍ حينما رأيته يضع الزجاجة بإهمالٍ عند حافة التسريحة، شعرت في تلك اللحظة أنها ستتحطم، وصدق حدسي فسقطت متهشمة على الفور، اتسعت حدقتاي قهرًا على ضياع ما أنفقته على الهدية سدى، ليس هذا فقط، بل على تلاشي السعادة من حياتي الزوجية، استدار نحوي قائلاً بحرجٍ:
-أعتذر "ناردين"، لم انتبه
ثم انحنى ليجمع الزجاج المتناثر بينما تجمدت في مكاني أبكي بضيقٍ مبرر وكأن شريط ذكرياتي معه يمر نصب عيناي لينتهي عند حافة الهاوية، اعتذر من جديد مبديًا ندمه ولكني لم أتقبله، فلو أظهر للحظة واحدة شغف صادق نحو هديتي لما عبأت مطلقًا بما صار حتى لو تحطمت عشرات المرات، فيكفي أن تهادي أحدهم وردة بمحبة صادقة لتصل مشاعره إلى قلبك وتغلغل في أعماقك عن مجرد كلمات منمقة مجاملة كنوعٍ من تأدية الواجب، هو من البداية عكس عدم مبالاته بها، وأنا توهمت حسن نيته، هرعت من الغرفة متجهة للحمام لأبكي بداخله، ومع هذا لم يلحقني "حبيب"، تركني أتجرع مرارة الحزن بمفردي، مكثت لبعض الوقت حتى استجمعت نفسي وخرجت منه لأجده راقدًا على الفراش يطالع هاتفه المحمول كما لو لم يفعل شيئًا، تمددت إلى جواره متوقعة أن يتجاذب أطراف الحديث معي ليهون عليّ الأمر، وانتظرت، ثم انتظرت، وراقبته لمدة طويلة، لا شيء صدر منه نحوي، فقط تحديق مهتم بما يتابعه في هاتفه، حينها أدركت أن ما أرسمه في مخيلتي من معايشة مشاعر الحب حتى نهاية العمر لم تكن إلا أوهامًا خادعة، أنا أحببته من جانبي فقط، وهو لم يبادلني نفس الشغف ونفس المحبة، ادعيت النوم لأنخرط من جديد في نوبة صامتة حذرة من البكاء المقهور.
*****
مضى شهر وراء الآخر، واعتدت تقريبًا على طباعه الجافة، قل التواصل بيننا حتى بات أمرًا عاديًا إن لم نهاتف بعضنا أو نتحدث لأيامٍ خلال سفره المستمر، نعم أفقت من وهم الحب الحالم معه، وبت مثله واقعية، لا أفكر فيما يحتاجه القلب من مشاعر صادقة ليروي ظمأه لدفء الأحضان وحرارة الوجدان، تسلحت بالجمود والفتور، وسعيت فقط لإكمال صورة العائلة السعيدة بالإنجاب، لكن تعذر حدوث ذلك لتباعد فترات الاتصال بيننا، آنذاك أخبرني طبيبي النسائي بوجود وسائل طبية لحدوث ذلك في حال سفر الزوج، تحمست للفكرة إلى حد ما، فلما لا أشغل وقتي بطفلٍ أوليه حبي وأمنحه كل ما عجزت عن الحصول عليه؟ قرأت عن المسألة وتقصيت من المختصين ليكون أبعاد الموضوع مكتملاً عندي حينما أفاتحه فيه، وتبقى لي النقاش معه لنحسم سويًا ما راود عقلي مؤخرًا بعد أن زاد إهماله لي وعانيت أكثر من قسوة الوحدة، اخترت مفاتحته في عطلته الأخير، كالعادة كان مسترخيًا على الفراش يتبادل حديثًا مكتوبًا مع أحدهم لوقتٍ ليس بالقليل، هتفت قائلة بنزقٍ لأقطع متابعته معه بعد أن تملكني الضيق من تجاهله الزائد عن الحد:
-أريد أن أنجب "حبيب"
نظر لي من طرف عينه نظرة باردة، ثم رد متسائلاً:
-وما المطلوب مني؟
رددت بجدية تامة:
-أن نفعل المناسب لكي ننجب
زفر قائلاً بوجهٍ ممتعض:
-هذه مشيئة الله، حينما يأذن سيحدث
علقت عليه بإصرارٍ:
-ولكن أمرنا الله أن نأخذ بالأسباب، هناك وسائل طبية قد تتيح لنا حدوث ذلك
تفاجأت به يقول بجدية بالغة:
-حسنًا، وأنا لا أريد الإنجاب الآن
سألته مصدومة من مصارحته العلنية الهادمة لجذوة الحب الصغيرة الباقية بداخلي:
-ماذا تقول؟
رد بنبرة جمعت بين القسوة والجمود:
-ما سمعتيه "ناردين"
هتفت مدافعة بجنون عن حلمي الأخير، خاصة أن مدة زواجنا قد طالت دون وجود صغارٍ:
-كل زوجين يحلمان بأن ينجبا طفلاً، وأنت تقول لي هذا الكلام الفارغ، أنا لا أصدقك!
اشتدت تعابيره قائلاً:
-لأني في بداية طريقي، مازال أمامنا بضعة سنوات لننجب، وأنا لا أرغب في طفل يعوق مخططاتي حاليًا
انحبست العبرات المصدومة في طرفي، تنفست بعمق لأمنع صدري الذي اختنق من أن ينفجر بصراخٍ لأقول ببطءٍ وأنا أرجوه:
-إنها رغبتي الأخيرة "حبيب"، اعتبره طلبي الوحيد
وكأنه لم يتأثر بحالتي الواجمة ليرد بوجهٍ متحجر الملامح قاسي النظرات:
-لا أستطيع "ناردين"، كذلك أنا لم أطلب منك أن تنجبي!
لم أتحمل المزيد خرج صوتي منتحبًا صائحة به:
-وأنا لن أنتظر مرور العمر لأحصل منك على طفل، ألا يكفيك تركي وإهمالي لترفض منحي أحد حقوقي؟!
رمقني بنظرة جافة خالية من العطف معلقًا عليّ:
-"ناردين" أنتِ تريدين الشجار على أمر تافه!
رفعت حاجبي للأعلى مستنكرة تبريره للأمر متسائلة:
-هل يعدُ الإنجاب تافهًا بالنسبة لك؟
أجابني ببرودٍ:
-نعم، فأنا لا أريد طفلاً يقيد حريتي بالمزيد من المصروفات، ويلزمني بمسئوليات أنا في غنى عنها الآن، وأنتِ لن تغصبيني على ذلك
فاض بي الكيل، ورأيت حياتي على المحك، صرخت به معبرة عما يجيش في صدري من آلام وأوجاعٍ أرهقتني على الأخير:
-لقد سئمت من تلك الحياة العقيمة التي لا تقدم لي سوى التعاسة
حدجني بقسوة متسائلاً:
-الآن تتذمرين؟
سألته بحدةٍ وأنا أبكي العبرات الحارقة:
-لماذا تزوجتني "حبيب"؟ ألم تكن تحبني؟
أجابني دون ترددٍ:
-نعم، كنت!
كان رده مقتضبًا لكنه أصاب قلبي في مقتل، ابتلعت ريقي في حلقي المليء بالعلقم لأسأله وأنا أتوقع الرد مسبقًا:
-والآن؟
رد بفتورٍ:
-لا أعرف
بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، التهبت حدقتاي من حرقة الدمعات التي صرخت عني، سمعته يضيف ببرودٍ:
-وأرجوكِ لا تضغطي عليّ فلا أتفوه بالحماقات، دعيني لأنام
رفضت صائحة بصراخٍ:
-لا
زفر متسائلاً بنفاذ صبر:
-ماذا تريدين؟
سألته بعتاب وقد أدمى حديثه قلبي المفطور:
-هل هناك ما لم تفعله لتهمل مشاعرنا؟
هدر مستنكرًا:
-تتحدثين عن المشاعر مرة أخرى، أخبرتك من قبل أني لستُ برجل حالم، أنا واقعي و....
قاطعته بنبرتي الباكية:
-والاهتمام لا يتطلب أن تكون عاشقًا متيمًا، فقط امنح شريكك ما يستحقه على قدر اهتمامه بك، لو كنت تعاملني مثل رفاقك لما اشتكيت أبدًا
أشاح بوجهه بعيدًا عني مرددًا:
-عدنا إلى نقطة الرفاق مجددًا، أنتِ تغارين منهم؟ حقًا النساء عاشقات للنكد!
تحركت لأقف قبالته وأنا أسأله بنفسٍ منكسرة:
-وماذا عنكم أنتم معشر الرجال؟ أتمنحون السعادة للنساء؟
رفع كفه أمام وجهها قائلاً:
-لا أريد الحديث "ناردين"
سألته بإلحاحٍ:
-وماذا عني؟ ألم تشفق على ....
قاطعني بقسوة:
-أتعلمين لقد مللت من جحيم حياتك
نظرت له بصدمة من بين عبراتي التي غلفت مقلتاي، ثم سألته بذهولٍ:
-أباتت حياتي معك جحيمًا؟
أجابني متعمدًا أن يكون شرسًا في رده:
-نعم، هل ارتاح قلبك؟
رددت عليه:
-أنت لم تحب إلا نفسك
بدا فجًا وهو يعلق:
-وما العيب إذا منحت نفسي بعض الاهتمام؟
رمقته بنظرة مليئة باللوم قبل أن استطرد قائلة:
-يا ليتها كانت نفسك فقط، لكنك تمنح كل من حولك الاهتمام إلا زوجتك، أتذكر تاريخ زواجنا؟ أتذكر يوم ميلادي؟ أتذكر أي تفصيلة تخصني متعلقة بنجاحي؟
عقب بوقاحةٍ:
-كفاكِ أوهامًا، تتصيدين الأخطاء لمجرد رفضي لمسألة الإنجاب!
صحت رافضة ما يقول وأنا أكفكف عبراتي بظهر كفي:
-ليست بأوهام، إنها الحقيقة "حبيب"، أنت لم تفِ بوعودك القديمة، لم تمنحني الحب، قصرته فقط على أصدقائك وأهملتني، حتى أنك ترفض الإنجاب كي لا تتقيد بطفلٍ فتبقى حرًا غير ملتزمٍ بأي مسئولياتٍ
أردف قائلاً:
-من حقي أن ...
قاطعته بحدةٍ قبل أن يختلق لنفسه المبررات ومشيرة بسبابتي نحوه:
-معذرةً، ليس من حقك وحدك، فأنا شريكتك
منحني نظرة لم تعرف الحب أبدًا ليقول بعدها بجحودٍ:
-أحيانًا أتمنى لو كنت أعذبًا
رددت عليه ببقايا كبرياءٍ مستنزف:
-يا ليتك بقيت هكذا ولم تظلمني معاك
صدمني قائلاً:
-لقد وصلنا إلى مفترق طرقٍ "ناردين"
سألته وأنا أحاول الحفاظ على الجزء المتبقي من ثباتي:
-ماذا تقصد؟
أجابني بعد زفيرٍ قصير:
-نحن بحاجة للابتعاد عن بعضنا لبعض الوقت
ارتجف بدني من تصريحه العلني برغبته المتنامية داخله بالانفصال عني وإن كان قد انتقى من الكلمات ما يهون به وطأة الحقيقة القاسية على روحي المتعبة، تابع قائلاً بعزمٍ:
-لنعطي لأنفسنا فسحة لنفكر في القادم من حياتنا إن أردنا إكمالها بتلك الصورة سويًا، وأشكُ أن نفعل
سألته بنبرة مهزومة:
-أتريد الانفصال عني؟
أجابني موضحًا:
-بل أريد فرصة لأرتب أفكاري بعيدًا عنك وأحسم أمري
أومأت برأسي قائلة:
-هكذا إذًا، شكرًا لأنك كنت صريحًا معي
لم يضف المزيد بل انسحب من الغرفة ليتركني أنهار بمفردي في بكاء مرير أوجع قلبي واقتلع روحي لأدرك أني خطوت بالفعل نحو هاوية إنهاء زيجتنا، لم يمر أسبوعان على اختياره للفراق إلا وكنت جالسة معه عند المأذون أوقع على وثيقة طلاقي منه، كانت نهايتنا معلومة حتى وإن أرجأناها لبعض الوقت، هو حسم الأمر واختار الابتعاد، وبقيت أنا أعاني ألم الاشتياق، نعم ضاع ما أمنت به يومًا معه من حبٍ حالمٍ لم يكن إلا من طرفي، وظل ما جمعنا مجرد ذكريات واهمة تشوهت بفعل الإهمال وعدم الاهتمام.

_تمت
#مجلة_الشفق

إرسال تعليق

0 تعليقات